هناك من هو مثل الذبابة لا يقع إلا على الجرح، وهناك من هو مثل النحلة حيثما أطلقته يبحث عن الزهور يرتشف رحيقها، وفي مجال الحياة الاجتماعية واليومية، خير للمرء أن يكون كالنحلة لا الذبابة، فيتغافل عن أخطاء الأهل والأصدقاء والجيران والزملاء، قدر المستطاع، ويحرص على عدم تتبع زلاّتهم وأخطائهم، أيضا قدر المستطاع.
ولكن تعميم هذا المفهوم على عالم السياسة أمر لا أرى له من المنطق شيئا؛ فالسياسة لا تقوم على حسن أو سوء الظن، ولا يكفي للنجاح فيها حسن النوايا، ولا تؤخذ دوما باللونين الأبيض والأسود، وهي ليست جرحا يقع عليه الذباب، ولا زهرة تحط النحلة فوقها...هذه تشبيهات رومانسية لا أرى لها في السياسة موضعا.
إن السياسة ممارسة إنسانية فيها من صفات الإنسان أكثر من صفات مخلوقات الله الأخرى، والإنسان خلقه الله–سبحانه وتعالى- في أحسن تقويم، وقد يعمرّ، وينكس في الخلق، ويهرم وتغزو جسده الأمراض، هذا من الناحية الفسيولوجية؛ ومن الناحية الأخرى فإن الإنسان يخطئ ويصيب، وقد يغلب خيره شره، أو العكس، وهو الإنسان البشوش تارة، والغاضب العابس تارة أخرى، هو الضاحك حينا والباكي أحيانا، وهكذا...ولنفكر بالسياسة ضمن سياقها مستحضرين أحوال الإنسان!
كان لا بد لي من هذه السطور كمقدمة إجبارية لإيضاح الفكرة؛ وأنا أرقب حال الإسلاميين الذين غلب عليهم في بعض المواقف ألا يزنوا بالقسطاس المستقيم، عند تناولهم للمواقف السياسية، وأنا هنا أقصد عموم الإسلاميين، ومن ليسوا في مواقع تضطرهم إلى اتخاذ مواقف إجبارية، فعلا أو قولا، أي من هم في فسحة من أمرهم...فالغالب على هؤلاء إما التشكيك والاتهام وسوء الظن، وإما التبرير المضحك أو المخجل الذي يتلاعب بالكلمات.
حين انقسم الإسلاميون قبل ثلاثة عقود حول الثورة الإيرانية ونظام الملالي؛ كان هناك مشاهد مضحكة؛ فالمتحمسون لهذا النظام يبررون كل ما يصدر عنه، وإذا كان هناك شيء ثابت مؤكد يظهر أنه مخطئ لجأوا إلى نظرية المؤامرة والتكذيب، وكأن واحدهم عيّن نفسه ناطقا باسم نظام الولي الفقيه، فحين تحدثه عن فضيحة إيران-غيت-كونترا ينفي المدافع الخبر متكئا على نظرية المؤامرة، أو يلجأ للتبرير والدفاع، أما من كان موقفه ضد النظام الإيراني فإنه يرى أن ثمة مؤامرة إيرانية مع الغرب لتشويه صورة الإسلام بإصدار فتوى هدر دم (سلمان رشدي) والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لسردها...طبعا اتخذت إيران مؤخرا سياسة واضحة في العدوان، ومع ذلك تجد من يبرر لها سلوكها وسياستها تحت شعارات وحجج يسقطها الواقع المرئي.
وحين كان السودان يعيش حالة تحالف بين الجبهة القومية الإسلامية بزعامة د.حسن الترابي-رحمه الله-والرئيس الفريق عمر البشير رسم بعض خطباء المنابر من الإسلاميين إضافة إلى مطبوعات صادرة عنهم صورة مثالية وردية، وحاكوا أساطير، أضحك على نفسي شخصيا لأنني صدقت بعضها، وحالة اندفاعهم وتحمسهم لم تراعي أن الدولة السودانية لها مصالحها وحساباتها الخاصة، والتي ليس من المطلوب منك كإسلامي تبريرها جميعا، أو رفضها جملة وتفصيلا؛ فليس مطلوبا منك أن تقول بأن (كارلوس) أدخله الموساد والسي آي إيه إلى البلاد لتبرير الهجوم على السودان بحجة إيواء إرهابي دولي، ولهذا تم تسليمه إلى فرنسا؛ فهذا أمر كان للسودان حساباته الخاصة فيه، فليتحدث بمؤسساته وإعلامه عنه كما يراه مناسبا لتبريره أو شرحه، وعلى كل حال لم يشطب اسم السودان من قائمة الدول التي تدعم الإرهاب بعد تسليم كارلوس، وقام بيل كلينتون بقصف مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم، فأين تبريرات المندفعين الملتهبة المشبعة بالحماسة؟!...ومما يشهد به للترابي أنه لم يكن لا تبريريا ولا مسيئا للظن، حتى وهو يتحدث عن أسامة بن لادن كان متزنا، لا يحاول استرضاء الغرب ولا الشباب المتحمس.
وفرح إسلاميون كثيرا بحزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان؛ فها هم أمام دولة إقليمية كبيرة ومهمة تحقق نموا اقتصاديا، وتتخذ مواقف سياسية غير معهودة في تاريخ الجمهورية التركية، ولكنهم حمّلوا تركيا، ما لم تحمّله هي لنفسها، وصاروا يبررون أوتوماتيكيا كل خطواتها وسياساتها، وعادة نقول(فلان ملكي أكثر من الملك) وبعض الإسلاميين(تركي أكثر من الأتراك، وأردوغاني أكثر من أعضاء حزب أردوغان)!
والأدهى والأمر استحضار أمثلة من التاريخ الإسلامي في سياق هذا التبرير، وكأن الواحد منهم هو الناطق باسم الخارجية أو الرئاسة التركية، وقد يضرب-في سياق تبريراته- مثلا من عصر الصحابة، وفي موقف آخر يقول لك نـفس الذي استحضر تاريخ الصحابة والخلفاء الراشدين:يا أخي نحن لسنا في عصر الصحابة...إن هذه لعمري ظاهرة خطرة، أعني الانتقائية في استحضار الأمثلة من الماضي.
تركيا لها حساباتها الخاصة بها كدولة ورئيس وحزب حاكم، وهي أفضل من غيرها من الدول للأمة؛ ولكن أنا لست ملزما بالترحيب بتطبيعها للعلاقات مع إسرائيل بحجة أن العرب سبقوها وعلاقاتهم أدفأ، أو أن الأمر مجرد تكتيك سياسي، وتركيا معنية بألا تقوم دولة للأكراد على حدوها مع سورية، لاعتبارات مفهومة، ولكن لم ألزم نفسي بتبرير موقفها، وأنا أرى انعكاس الأمر على الثورة السورية سلبا؟!
قلنا بأن وسائل الإعلام الجديد أعطت للمرء تحررا من القوالب والتلقي، وأنا أراها على العكس حيث لا استقلالية في الرأي، وكأن صفحة الإسلامي على فيسبوك أو تويتر أو حسابه في واتساب أو تليجرام هو حساب حكومة تركيا أو زعيم أو مفكر أو فقيه أو غير ذلك.
لا أرى مبررا لتصريح يقول بأنه لو سألني الشهيد محمد الزواري-رحمه الله وزاد من أمثاله- لنصحته باجتناب العمل المسلح، فالأولى الافتخار بالشهداء، حتى لو لم يكونوا أعضاء حزبك وحركتك...وإذا كان في الأمر حسابات وأسرار، فأنا كإسلامي لي الظاهر، ولست ملزما شرعا أو عقلا بهذا الموقف...والصمت خير من التبرير أحيانا!
وأصلا الأسرار تكشف أن التبريرات واهية؛ فمثلا إبان حرب أفغانستان في الثمانينيات، كان الإسلاميون يقولون بأن سلاح المجاهدين كله غنائم من الجيش الأحمر، وأنه لا يوجد سلاح أمريكي إطلاقا، ولا أي نوع من المعونة الأمريكية؛ علما بأنه لولا أمريكا-بتسهيلاتها وعلاقاتها- لما وصل للأفغان معشار ما وصلهم من المجاهدين العرب، ولا حتى معونات طبية أو غذائية، عدا الدعم الإعلامي غير المسبوق...لا أقول بأن كل المجاهدين كانوا ينسقون ويتعاونون مع الأمريكان، فهذا كذب و زور و افتراء، ولكن النفي المطلق، يشبه من وجهة نظري، من يصفهم جميعا بأنهم كانوا مجرد أدوات بيد أمريكا!
هناك حزب التحرير الذي يرى أن كل من لم يحكم بدستور يرونه هو الدستور الإسلامي الصحيح إما يخالفون الإسلام ويقترفون الحرام، أو أنهم عملاء للغرب، ومثلهم من يخالفهم ولكنه يتخذ نفس الثقافة والمنهج وهو أيمن الظواهري الذي خرج يوما قائلا:عظم الله أجركم في قادة حماس، عدا عن مرقومه الذي يهاجم فيه الإخوان المسلمين، وقد جاء تنظيم الدولة ليطلب رأس الظواهري ومعه رؤوس قادة حماس، ومن يدري فقد يأتي ما بعد تنظيم الدولة طالبا رؤوس جميع من سبق...فبتنا بين ثقافتين غاية في التطرف والغلو، فهناك من يبرر ويسوّغ الأخطاء، وهناك من يخطئ أو يكفر كل المخالفين...ولا حول ولا قوة إلا بالله!
التبرير عادة ما يقول أصحابه (مبررين تبريراتهم) بأنهم لا يريدون للمتربصين والشانئين الذين يتصيدون الصغائر فيجعلونها كبائر أن يتشفوا، وأن يكون معهم ذخيرة يرمون بها حمم أحقادهم، قلت:إن الشانئ المتربص لن يكف عما بات له صفة لازمة، فمثلا حتى لو أن أردوغان قطع العلاقات مع إسرائيل، وأنقذ حلب من الاحتلال الروسي والإيراني والأسدي والميليشياوي، فسيظل مبغوضا متهما، فدع الشانئ الحقود وشأنه ولا تحسب له عند الحكم على المواقف أي حساب، فقد ختم الله على قلبه، أما أنت فلا تنسى أنك تنتسب إلى مدرسة فكرية نبعها كتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فليكن هذا ميزانك أولا...ولا تنسى أن ضرورات غيرك من الحكومات أو قادة وزعماء الأحزاب، ليست حتما خياراتك أنت، ولست ملزما بالدفاع التلقائي عنها، ومحاولة تبريرها بتبريرات أخالك أنت نفسك غير مقتنع بوجاهتها!
وهنا لا أنسى أن أعرّج على كثير مما خطه محمد أحمد الراشد، والذي رسخ ثقافة التبرير، واتخذه نهجا ثابتا، وجعل كل منتقد محل شبهة ضمنا!
إن من تمظهرات الطامات الكبرى هي أن هناك في التيار الإسلامي من يحاول إقناع الغرب بأن الإسلاميين هم الأجدر بالحكم والإدارة في أقطار المنطقة وهؤلاء في غفلة وقصر نظر؛ فالغرب يريد سقفا منخفضا أكثر من الحالي، وهو ما لا يمكن للإسلاميين أن يقدموه في ظل ازدياد النزعة اليمينية ذات الصبغة الاستعمارية المعادية في أمريكا وأوروبا وستكشف الأيام منها وعنها المزيد والمزيد، كما أن الغرب لديه شيء ثابت، على الأقل في المرحلة الحالية، وهو وجود إسرائيل، وتجريم مقاومتها، فهل لدى التيار الإسلامي استعداد لدفع هذا الثمن، والذي لن يرضى الغرب بدونه؟ إذا كان الجواب هو (لا) فلم هذه المواقف والتصريحات التي تحاول استرضاء الغرب؟ وإذا كان (نعم) فلا تعليق لدي إلا أن الحديث لا يدور عن إسلاميين وقتها!...طبعا في سياق ثقافة التبرير السائدة سينفي قطاع ليس بسيطا من الإسلاميين أن الهدف هو محاولة استرضاء الغرب، أو على الأقل ضمان عدم عدوانيته، بل هي مراجعات وتطور فكري طبيعي في سياق الحركات الحيّة التي تصوّب مسارها، ولست أرى في الانحراف عن المنهج الذي أهريق دونه نهر من الدم ومئات الآلاف سجنوا وعذبوا في سبيله تصويبا على الإطلاق!
إن الوعي بما هو عليه حال الأمة قمين بتصحيح المسار وانحسار الثقافتين(التبرير المطلق، وسوء الظن التلقائي) فالأمة تشهد عدوانا شرسا شاملا، وصارت القوة العسكرية حاضرة فيه، وفي فلسطين المسجد الأقصى مهدد والأرض الفلسطينية ينهشها الاستيطان، وإسرائيل تتسلل إلى الدول العربية التي تعجز عن دفع الصائل الإيراني، في مشهد سوريالي، والجيوش الأمريكية والروسية حاضرة وقد تزيد من حجمها كما ونوعا وعدوانا...هذه هي الصورة التي على الجميع رؤيتها وأولهم القادة، ثم أهل الرأي والأقلام.
فلننظر إلى صلف ترامب ووقاحة نتنياهو وعربدة بوتين، كيف نواجه الأمر؟هل واجه صلاح الدين أرناط بثقافة التروّي والموادعة؟أم هل واجه العز بن عبد السلام وقطز التتار بالتسويف والحديث عن الحوار والسلم وغير ذلك؟وإذا كان الجواب بأن موازين القوى مختلة، والظروف الموضوعية مختلفة، فهذا ما يقوله غير الإسلاميين، فلم تلومونهم إذن؟هل إذا صدر الكلام من غير الإسلاميين فهو مطعون به وبمن قاله، ولكنه مقبول ومبرر وفي منتهى الحكمة والكياسة إذا صدر منهم؟! لم انطلقتم إذا؟ولم رأيتم بأنفسكم حملة رسالة وأمانة إذا كانت هذه هي خاتمة مسيرتكم؟وماذا عمن دفعوا الأكلاف الباهظة في مسيرة الدعوة من دمهم وسنوات أعمارهم في السجون وحتى أعراضهم التي انتهكت؟كان يمكن أن توفروا كل هذا!
على الإسلامي الذي ليس ناطقا باسم حزب أو حركة أو حكومة أن يكون الضمير الحي، وأن يمارس الرقابة وأن يكون هو صوت الحق المتحرر من قيود الضرورات التي تلزم غيره، لا أن يبحث عن هذه الضرورات-إذا سلمنا بها أصلا-بمجهر إلكتروني ويجعل نفسه مجرد صدى، وتابعا حتى بلا أجر دنيوي...وعلى من ديدنه سوء الظن ونهجه الاتهام، أن يتحلى بسعة الأفق، وأن يحكم على كل موقف على حدة ويحاول تجنب الآراء المسبقة، وقوالب الأحكام الجاهزة.
إلى كل من يلوم الاستاذ راشد الغنوشي على تصريحاته أقول :
لقد نزع ثوب الفقيه وإن لم يكن يدعي ذلك من قبل ، هو رئيس حزب سياسي يتخذ من الاسلام مرجعية بحسب اجتهاده ويتفاعل مع المترصدين له من الداخل والخارج ويناور إتقاء للضغوطات ومن منطلق دراسة عميقة للاوضاع الدولية يضع اولويته في السلم الأهلي الذي سوف يوفر في المدى المتوسط أرضية لبناء مجتمع سليم ..
فمن يريد منكم فتوى أو رأي فقهي فليتوجه إلى عالم دين وليس إلى سياسي ، فيكفيه الفخاخ التي توضع في طريقه ليلاً نهاراً ..