ثورة اللامبالاة

كان كلا طرفي عائلتي مزارعين، منذ وصولهم إلى الولايات المتحدة؛ أي أنهم كانوا بحكم التعريف ديمقراطيين. فقد أحب أجدادي روزفلت، وأحب والدي كينيدي.

وأنا نفسي كنت نشطا في الحزب الديمقراطي، فقد كنت أعمل كمنسق إحدى الدوائر الانتخابية للانتخابات الرئاسية لعام 1988، أي قبل أن أصل إلى السن الذي يُسمح لي فيه بالتصويت. وفي عيد ميلادي الثامن عشر، قمت بالتسجيل فورا حتى أتمكن من التصويت، ورفعت من قدر مشاركة حزبي بالقدر الذي تمكنت منه.

ومع ذلك، فقد استطعت أن أدرك سريعا أن الحزب الديمقراطي لم يعد حزب روزفلت، ولا حتى حزب كينيدي. فقد كان حزبا يحصل على الدعم الانتخابي من الفقراء والأقليات كأمر مسلّم به، ولكنه لم يكن يولي لهم إلا القليل جدا من الاهتمام الحقيقي. ورأيت أنه حتى على المستوى المحلي، كان حزبا للطبقة العليا، والمحافظين الأثرياء، أو هكذا كانوا يبدون لي.. أثرياء ومحافظون على أي حال. فقد كانوا يملكون المنازل التي يعيشون فيها، والتي تضم كراجات تتسع لسيارتين، وعادة ما تكون ممتلئة لأقصى طاقتها، وكانوا يعيشون في الضواحي الفخمة. وكانوا في الأساس جمهوريين، بحسب علمي.

وظل هذا إلى حد كبير هو مسار الحزب الديمقراطي طوال السنوات الـ20 التالية، وظلوا يرون أنهم سيحصلون على أصوات الفقراء والأقليات كأمر مسلّم به، لا لشيء إلا لأن الجميع يعتقدون أن الجمهوريين سيكونون أسوأ منهم. ولكن بحلول عام 2016، أصبح عدد من يؤمنون بهذه النظرية أقل وأقل، فأقرب من كان لدينا للديمقراطيين هو بيرني ساندرز، ولكن الحزب الديمقراطي ظل يعامله وكأنه أبرص. وإن تخيلنا أن أي من روزفلت أو كيندي ترشحا اليوم، فإن الحزب الديمقراطي سيعتبرهما يساريين راديكاليين، رغم أنهم سيعبران عن الأشياء التي لا زال معظم الناس يؤمنون بها.

لذلك، نعم، لقد عزفت قطاعات واسعة من الناخبين عن مجرد المشاركة.

ويجب حقا أن نعترف أن ترامب فاز في الانتخابات؛ لأن الشعب أصبح محبطا من العملية السياسية، ومتخما حتى أذنيه من الوضع الراهن. ومع ذلك، ليس من الصحيح أن هذا الاستياء العميق تمت ترجمته في شكل دعم لترامب، فهذا لم يحدث! ولكن تمت ترجمته في صورة اشمئزاز، ولامبالاة، وعزوف عن المشاركة. ليس هناك شيء اسمه "حركة ترامب"، فتقريبا في كل قضية نجده خارج مسار تطلعات الشعب.

أكثر من نصف الناخبين المؤهلين لم يصوتوا على الإطلاق، وإذا طرحت من أصوات ترامب من دعموه ببساطة لأنهم يكرهون هيلاري كلينتون، سنجد أن النواة الفعلية لأنصاره ربما لا تمثل إلا ما بين 10-15 في المئة فقط من الناخبين. وبصراحة، إذا تخيلنا أن هيلاري كلينتون هل التي فازت (وهي بالفعل كسبت أصوات ناخبين)، فنفس هذه المسألة الحسابية ستنطبق تقريبا. ربما كان لديها نواة أصغر من الأنصار الحقيقيين؛ فقد صوت لها الديمقراطيون كنوع من الولاء للحزب، وللتصويت ضد ترامب. لذا، فبغض النظر عما وصلت إليه الأمور، فقد تبين أن الرئيس الأمريكي كان ستنتخبه في الأساس أقلية هامشية.

ولكن هناك حركة تجري في أمريكا، وهذه الحركة تكشف عن نفسها، ليس في صورة المشاركة السياسية، ولكن في صورة رفض وعزوف... فالغالبية تبتعد عن العملية السياسية بحثا عن علاج لمظالمها.

كنت آمل أن تفوز هيلاري، لا لأنني ما زلت أشعر بأي ولاء للحزب الديمقراطي، ولكن لأنني أؤمن بأن المعارضة... أو ما يمكن تسميتها بـ"ثورة العزوف"... ستعبر عن نفسها في شكل انتقادات للسياسات ونقد حقيقي للسياسة، في حين أنه في ظل ترامب، من المرجح أن المعارضة ستكتفي بالتعبير عن كراهية شخص الرجل والسخرية منه.

وإن كان هذا هو الحال، فالسياسة لن تتغير. بل إن سياسة "الوضع الراهن" من المرجح أن تتجدد في الدورة الانتخابية القادمة. الديمقراطيون لن يتغيروا؛ لأنهم لن يصبحوا الطرف الذي سيواجه انتقادات، وبقدر ما هم الآن حزب المعارضة، فسيعملون على إبقاء شكاواهم على مستوى تافه وغير ذي صلة، كما فعلوا طوال الحملة، وفي الأيام السابقة لحفل التنصيب. فهم لن يجبروا أنفسهم على الإصلاح، رغم أنهم أحوج ما يكونون إلى الإصلاح والتأهيل.