طبيعة الحل الروسي في سوريا

تسارع روسيا إلى بناء حل سياسي في سوريا وفرضه أمرا واقعا على جميع الأطراف، مستثمرة بذلك الزخم العسكري الذي حققته عملياتها في سوريا، وحلب مؤخرا، بالإضافة إلى التغيّرات الدراماتيكية الحاصلة في بيئة العلاقات الدولية، وخاصة حال الارتباك في التحالف الغربي وانشغال أمريكا ودول أوروبا بالانتحابات وعمليات تسلم وتسليم السلطة، وبروز توجهات أمريكية جديدة حول شبكة العلاقات القديمة والموقف من الانخراط في قضايا العالم الخارجي.

الحل الروسي في سوريا يأتي من داخل صندوق الأدوات الذي استخدمته موسكو في السنوات الأخيرة، والمتأسس على تأمين الغلاف الجيوسياسي الروسي بالدرجة الأولى في سياق تحقيق مكانة دولية أفضل لروسيا عبر توسيع مساحات النفوذ في ثغر جيواستراتيجية مفصلية، وعبر أثمان مقبولة تجعل الرأي العام الروسي يدعم مثل هذه الخيارات ويساند صانعيها.

وفي هذا الإطار، اتبعت روسيا في عملياتها سياسة "تجميد الصراعات" في جورجيا وأوكرانيا، واليوم تنقل التجربة بحذافيرها إلى سوريا، مع فارق بسيط يتمثل بوجود شركاء إقليمين يعاونونها في تطبيق هذه السياسة.

وفق هذه السياسة، فإن الانخراط الروسي الزخم في الحرب الذي يتّبع منهج الأرض المحروقة خلال مدّة زمنية معينة، ويصل إلى ذروته حين إجبار الخصم على الانكفاء إلى الوضعية الدفاعية الهشّة، حينئذ تكون روسيا قد حصلت على الجزء من الأرض الذي يحقّق لها الفوائد الاستراتيجية المتصوّرة "أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية" في جورجيا، و"القرم" في أوكرانيا، بالنظر لمواقعهما على البحر الأسود وأهميتهما في أضعاف جورجيا وأوكرانيا، وجعل هذين البلدين تحت رحمة روسيا عسكريا وسياسيا.

وتجميد الصراع، بالمنظورالروسي، كفيل باستكمال أهداف العملية العسكرية وإن بطريقة وأساليب مختلفة، ذلك أن الخصوم بعد أن يجري دفعهم إلى مناطق أقل أهمية وضعيفة من الناحية الاستراتيجية، ستتكفّل صراعاتهم الداخلية وواقعهم المتشظي الذي ينطوي على انسداد الأفق صوب تغيير الأوضاع وانعدام الخيارات، إلى تفكيكهم وشرذمتهم ودفعهم تاليا للقبول بأي حلول تضمن إخراجهم من الوضع المأزقي، وفي هذه الحالة تكون روسيا قد حققت هدفا آخر، وهو عدم اضطرارها للانجرار إلى حروب طويلة الأمد تستنزفها وتضعف قدراتها وتؤلب المجتمعات المحلية ضدها، وتستنهض المنافسين الدوليين والإقليميين.

وزيادة في تمكين اللعبة من أجل تمريرها على الأخرين، تطرح روسيا، في هذه المرحلة، نفسها كقوّة لحفظ السلام، كما حصل في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وليست قوّة احتلال، أو كطرف يقف على المسافة نفسها من جميع الأطراف، كما طرحت نفسها في مفاوضات أستانة!

في سوريا، تنصب جميع الجهود الروسية على تحديد خطوط فصل بين الثوار وتحالف "روسيا، إيران، الأسد"، وتطرح فكرة بقاء كل طرف في المناطق الخاضعة له عبر اتفاق وقف إطلاق النار، مع حق كل طرف بإدارة القسم الذي يسيطر عليه، مقابل حصول الثوار على وعد بوقف تمدّد قوات التحالف المذكور، على مناطق وليس كل المناطق، وإطلاق مفاوضات سياسية بعد ذلك، لن تغيّر من الوقائع التي جرى تثبيتها بقدر ما تساهم في إخراج القضية السورية من دائرة الاهتمام الدولي رويدا رويدا، وتيئيس بيئة الثوار ومجتمعاتهم، وتفكّك بنية الثورة.

لن تذهب روسيا بعيدا في حلها السياسي السوري المزعوم، ستشتغل أدواتها على ترويض الثوار عبر وسائل عديدة تعتمد سياسة الترغيب والترهيب، وطالما عملت على عزل التأثيرات الخارجية عن الثوار فالغالب انها ستعمل دون توتّر وإحساس بالتهديد على استراتيجيتها تجاه الثوّار، وفي التقدير الروسي أنه جرى صنع دينامية لتغيير مسارات الأمور في سوريا لصالح استراتيجيتها، ولن تقف تلك الدينامية قبل تدمير الخصم نهائيا.

في هذه الأثناء، يواسي ممثلو الثوار أنفسهم بالاختراق السياسي الذي حقّقوه عبر وضعهم روسيا وإيران على سكة الخلاف التي ستتحوّل إلى دينامية تنهي الوجود الإيراني في سوريا، وبما أن السياسة دائما هي التفضيل بين الخيارات واختيار الأقل سوءا، فإن ممثلي الثوار اختاروا الخيار الأكثر واقعية وهو التفاهم مع روسيا التي لها مصالح جيواستراتيجية كدولة عظمى في مواجهة إيران، التي لا تخفي مطامعها في صناعة واقع ديمغرافي يغيّر هوية سوريا إلى الأبد.

والحال، أن الثورة تموت إن هي استطابت النوم على حرير الحلول الروسية الخبيثة، فبعد كل فترة ستدعم روسيا حلفاءها الإيرانيين وجماعة الأسد على قضم المزيد من الأراض بذريعة خروجها عن اتفاق إطلاق النار لوجود حماعات إرهابية فيها، سيحصل ذلك بعيدا عن الأضواء وفي ظل الادعاء بأن السيطرة على هذه المناطق من قبل الإيرانيين والأسد لن تشكّل خرقا كبيرا ولا تغييرا في المعادلات، وربما تغلفها روسيا بتحذير وهمي من ضباط قادة حميميم، وعلى الجانب الآخر سيعمل الثوار على تصفية أنفسهم عبر الصراعات التي سيخوضونها بعضهم ضد بعض. في ذلك الحين سيقف الناطق الرسمي بالكرملين ليقول: "الآن قضينا على الثورة السورية".