قضايا وآراء

هل يُنهي دونالد ترامب الوئام الروسي التركي؟!

جلال زين الدين
1300x600
1300x600
بقيت العلاقة الروسية التركية على مدى خمسة قرون؛ تأخذ طابع النديّة والمنافسة، بل والصراع الجيوسياسي. ولم يمنع هذا الإرث الثقيل من قيام علاقات طيبة في العصر الحديث، ولا سيما في المجال الاقتصادي، إذ تجهد الدولتان في تحييد المسائل الخلافية عن مسيرة العلاقات الاقتصادية المتنامية ما استطاعوا.

جهد الروس منذ قرون في الوصول للمياه الدافئة، أو الحصول على منافذ بحرية على العالم، وكان الأتراك (الدولة العثمانية) العقبة الرئيسة أمام الطموح الحلم، فاندلعت حروب وصراعات في سبيل الحلم الروسي. ففي عام 1669م سيطر الروس على ميناء آزوف المطل على البحر الأسود، وفي عام 1783م ضمّ الروس القرم، واندلعت في 1854 حرب بين العثمانيين والروس من أجل القرم. وينبغي التذكير بأن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنّ حوادثه تتشابه، ودروسه تعطي الموعظة ذاتها، فمن أسباب استمرار الخلافة العثمانية "الرجل المريض" بصورتها؛ خوف الغرب الأوربي من الروس الذين لا يخفون أطماعهم.

وفي منتصف القرن الماضي، قدّم رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان؛ دعماً للحكومة التركية، وضُمّت تركيا لحلف شمال الأطلسي "الناتو" وذلك رداً على الزعيم السوفييتي ستالين الذي طلب من الأتراك إقامة قواعد عسكرية سوفييتية على الأرض التركية، وأخذت تركيا "العلمانية، الرأسمالية" بالاصطفاف مع الغرب ضد الشيوعية، عدو الجميع، وكان ذلك إلى حدٍ ما يسير ضمن العلاقات التاريخية الطبيعية للأتراك مع الروس.

وبعد زوال العدو الشيوعي، استمرت حاجة الغرب للأتراك ضد المد الروسي، ولكن ليس بالزخم ذاته. ولاحظ الأتراك ذلك، ووجدوا من الخطأ وضع بيضهم كله في سلة الغرب فالصراع مستمر، لكن ليس بالطريقة التقليدية حيث اختلفت الأدوات، والتفتت تركيا للروس خاصة وللشرق عموماً الذي أدارت ظهرها له طويلاً وربما لم يكن ذلك خياراً بقدر ما كان ضرورة، ولا سيما في المرحلة الراهنة، وذلك لجملة أسباب منها:

 - تخلي الغرب عن تركيا، وازدياد نبرة العداء نحو تركيا "المسلمة" فلم تنجح التنازلات التركية المتتابعة بالسماح لها بدخول اتحاد أوروبي - يحسبه الأوربيون جنة الدنيا - خرجت منه بريطانيا طواعية. كما لم يعد هاري ترومان موجوداً بل على العكس، وُجد أوباما الضعيف، إذ عملت الدولة الأقوى في حلف شمال الأطلسي (الولايات المتحدة) على إقامة كيان كردي انفصالي في الشمالي السوري، وربما هذا الخط الأحمر الوحيد الذي لا يقبل الأتراك لأحد بتجاوزه، ناهيك عن موقف بارد بعد إسقاط الطائرة الروسية؛ من حلف كان ينبغي أن يكون حصناً لتركيا.

 -صعوبة الاعتماد على الغرب في حل الأزمة السورية، ولا سيما بعد أن عدّ الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، الروس شريكاً في الحل لا طرفاً في النزاع، ناهيك عن هشاشة الدور العربي، واكتفائه بدور المتفرج حيناً، والمتابع حيناً، والتابع غالباً. فالعرب معظمهم يرون روسيا شريكاً في الحل، فلماذا يحمل الأتراك السلم بالعرض؟ ولماذا يصبّون الزيت على النار في علاقتهم مع الروس، وهم في حاجة ماسة لصديق بعد انقلاب فاشل كاد يأخذ البلاد للهاوية؛ اتهمت فيه تركيا الحلفاء، وبعد انقلابات ناجحة - ولو مؤقتاً - ضد الربيع العربي جاءت بأنظمة معادية لتركيا.

- الخوف من تنامي الدور الإيراني في المنطقة، فأزلام إيران في العراق يعطون صورة لما ستؤول إليه سوريا في حال سيطرة إيران عليها، فلا بأس من نفوذ روسي يضع حداً للحلم الإيراني العقائدي المُدمِر لكل الجغرافية السياسية، والمُفتِّت لكل النسيج الاجتماعي والتعايش السلمي.

 - العامل الاقتصادي، فتركيا الشريك الخامس للروس، وتخطى حجم التبادل التجاري حاجز 30 مليار دولار، ناهيك عن ملايين السياح الروس، والمشاريع الاستراتيجية.

ما سبق جزء من قضايا جعلت الأتراك يقيمون علاقات دافئة مع الروس الباردين، ويمدون لهم جسور التواصل.

لاحظ الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب خطأ أوباما بتهميش الأتراك. فأكد ترامب أهمية العلاقة مع تركيا، ومع الحلفاء التقليديين في المنطقة جميعاً، لكبح جماح إيران، فكان اتصاله بالملك السعودي، واستقباله للملك الأردني. فهل يعيد ترامب العلاقات مع تركيا لمجراها الطبيعي، وينسف مخاوف الأتراك، ويعيد تموضعهم في المعسكر الغربي، وينهي عقد الوئام الروسي التركي؟!

إن المتتبع لسياق تطور العلاقات الروسية التركية يدرك صعوبة ذلك، فالعلاقات الروسية التركية تأخذ سمة الندية لا التابعيّة، فالميزان التجاري يتحدث عن ثلثين للروس مقابل ثلث للأتراك، والأتراك قبلوا بدور روسي في سوريا، مقابل قبول الروس بدور تركي عبر قوات "درع الفرات"، تماماً كقطع الروس الدعم عن حزب العمال، مقابل توقف الأتراك عن دعم الشيشان. وهذه العلاقة النديّة تسمح لتركيا بهامش المناورة، ومسك العصا من المنتصف، وبالتالي فإذا حاول ترامب إعادة المياه لمجاريها مع تركيا، فإنّ تركيا لن تمضي بعيداً في علاقات عميقة مع الروس، وستبقى في حيّز "هات وخذ".

ويدرك الروس ذلك جيداً، ويخشون من تغيير الموازين، وخاصة أن ترامب يفتح النار دون سابق إنذار، ويبدو مستعداً للمضي بعيداً في وضع حد لإيران، فمن العبث تحالف الروس مع إيران، وهذا ما يفسر النبرة الهادئة لمناطق ترامب الآمنة، خلافاً لمناطق أوباما.

وفي هذا السياق يفهم قبول الوساطة التركية لخروج الثوار آمنين من حلب الشرقية، وعيون النظام والمليشيات الإيرانية تقدح حقداً دون أن تستطيع فعل شيء، وكذلك مؤتمر "أستانة"، فنجاحه فيما نرى يتوقف في جزء كبير منه على الموقف الأمريكي، فالروس قد يتعاونون مع الأتراك لحد بعيد، ويضغطون ويجبرون النظام والإيرانيين على الحل الذي يريدونه إذا وجدوا إرادة حقيقية من ترامب بدعم الأتراك، فالروس لا يريدون في النهاية الغرق في المستنقع السوري بمقدار حرصهم على تحقيق مكاسب ومصالح لا يُعتقد أن الأتراك يعارضونها في ظل المعطيات الحالية.

وتبقى روسيا دولة عظمى يُخشى جانبها، ولا يؤمن طرفها، ولا سيما في الملف السوري، وهذا ما يعزز تفضيل تركيا مسك العصا من الوسط.
التعليقات (0)