نشرت صحيفة الواشنطن بوست في 23 فبراير الحالي مقالاً مثيراً للاهتمام للكاتب تشارلز كراوثامّر تحت عنوان "ترامب ونظرية الرجل المجنون". تركّز الفكرة الأساسيّة للمقال على أنّ التناقض الموجود بين رئيس غير محترف، غير تقليدي، ولا يمتلك الخبرة اللازمة، وبين عدد من المسؤولين الذين قام بتعيينهم في مراكز أساسية وحسّاسة في الإدارة الأمريكية وأجهزة الدولة ممّن يتمتعون بخبرة عميقة قد يكون أمراً مفيداً للولايات المتّحدة على مستوى علاقاتها مع الدول الأخرى.
ويشير المقال بالتحديد إلى الشخصيات التي عيّنها ترامب في وزارة الدفاع والاستخبارات والأمن القومي بالإضافة إلى مستشاره الجديد للأمن القومي، ويعتبر أنّ التناقض الموجود بين خطاب ترامب وأفعال هؤلاء المسؤولين في هذه المواقع سيخلق وضعا يشبه إلى حد ما الحالة "النيكسونيّة" التي أنتجت نظرية "الرجل المجنون". في عهد نيكسون، مال خصوم الولايات المتّحدة آنذاك إلى التعامل معها بحذر لأنّهم كانوا يعتقدون بأنّ الرئيس الأمريكي شخص لا يمكن توقّع تصرفاته، ومتهوّر في العادة، وعلى الأرجح مجنون وخطير كما يقول الكاتب، وأنّ نيكسون وهنري كسنجر إستغلاّ هذا التصوّر، واستطاعا عبر تعاونهما توظيفه في أكثر من مناسبة للضغط على خصوم الولايات المتّحدة.
لا شك أنّ مثل هذا التصور جميل، وهو مؤثّر بالفعل عندما يكون ناتجاً عن حالة وعي، وعندما يتم تنفيذه عن سابق تصوّر وتصميم. لكنّ طرح تشارلز يعاني من عدّة مشاكل ومن قصور في المقارنة بين الحالتين. فترامب ليس نيكسون، وإدارة ترامب لا تمتلك هنري كسنجر آخر. نيكسون كان سياسياً لمدة طويلة من الزمن، وكان له موقعه داخل الحزب الجمهورية، وعمل سيناتوراً، وخدم في الجيش الأمريكي أيضاً، وإحتل موقع نائب الرئيس الأمريكي لمدة ثماني سنوات قبل أن يشغل موقع الرئيس فيما بعد، أمّا ترامب فهو لا يمتلك أيّاً من هذه الخصائص، فهو دخيل تماماً على المجال السياسي، وليس لديه أي تصوّر عن الكيفية التي تعمل بها هذه المؤسسات من الداخل كما هو واضح.
في ما يتعلق بجنرالات ترامب، فلا يوجد أدنى شك بكفاءتهم وخبرتهم العسكرية النظرية والعملية، لكن لا بد أن نقرّ أيضاً بأنّهم مختلفون عن كسنجر، وكما ذكرت في مقال سابق لي هنا في شهر يناير الماضي تحت عنوان "إدارة ترامب: خطوة نحو المجهول"، فمن الجيد في بعض الأحيان ألا تكون أوراقك مكشوفة للخصوم والمنافسين، لكن من السيئ أيضا ألا يعرف الأصدقاء المفترضون رؤية الولايات المتحدة وأجندتها".
ما يحصل الآن في الولايات المتّحدة ليس تنسيقاً للأدوار بين الرئيس وأعضاء إدارته بقدر ما هو فوضى غير بنّاءة تخلق حالة من عدم الاستقرار والغموض السلبي. لا شك أنّ هذا الوضع يحمل في طيّاته أيضاً منطق التخوّف مما قد يفعله ترامب بما أنّه شخصٌ لا يمكن توقّع تصرّفاته، لكنّ انعكاسات هذا الأمر طالت الولايات المتّحدة فقط حتى الآن وليس خصومها أو أعداءها.
ما قد يحصل فعلاً هو أنّ طاقم ترامب المحترف قد ينجح في مرحلة ما في إقناع ترامب بضرورة إعطائه مساحة للتحرك بحرية، وإذا ما حصل هذا فعلاً فهو يعني أنّ عملية التخطيط وصنع القرار ستصبح غير مركزية وإن بقي الرئيس يحتفظ بالقرار الأعلى والنهائي. إذا ما استطاع هؤلاء المسؤولون في هذه المواقع الحساسة أن يضعوا وينفذوا سياسة متناغمة مع بعضهم البعض إزاء الملفات المهمّة التي تواجه الولايات المتّحدة، عندها من الممكن مناقشة نتائج توزيع الأدوار بينهم وبين الرئيس، لكنّ مثل هذا الأمر يحتاج إلى وقت طويل، والوقت عامل مهم في العلاقات الدولية، وقد لا يكون هو العنصر الأساس في المعادلة التي نبحثها خاصّة في الوقت الذي يؤكد فيه البعض أنّ المشكلة ليست مشكلة وقت وإنما مشكلة عضوية.