نقطة ضوء في الظلام
التونسي الحندس. لقد تم إصدار قانون يحمي الأشخاص المبلغين عن الفساد في مواقعه. بحيث يمكننا أن نحلم بدولة خالية من الفساد. إنه لأمر يسرُّ النفس أن يقوم مواطن واع بدوره في إعانة الأجهزة القانونية من أمن وقضاء على حماية المؤسسات والحرص على المال العام. لكن نقطة الضوء شحيحة ولا تكفي للزغاريد المتفائلة فالأمر يتجاوز الفساد الموضعي إلى دولة فاسدة.
لا يمكن محاصرة آليات إنتاج الفساد والإفساد فيها فبعض هذا الفساد بل أكثره يعرف كيف يحمي نفسه بالقانون فيكون التبليغ عنه كيدا يرتد على المبلغ لقد كان بن علي فاسدا ولكنه كان يحسن تنظيف الطريق أمامه وخلفه بجيش من المشرعين الأذكياء الذين يعرفون كيف تصاغ النصوص المحكمة فلا يجد فيها القاضي فجوة لاجتهاد. الدولة فاسدة وتنتج نصوصا فاسدة لغايات فاسدة وهذا كلام عاطفي نعم لكن لم نجد له بديلا يسمح بتنسيبه
طاحونة الشيء المعتاد
لم نفتأ نكتب عن فقر الحكومات إلى خيال تنموي فعّال يعيد طرح منوال تنموي جديد يقدم الاستثمار في الزراعة العصرية على انتظار سوق السياحة الكاسدة. لكن نعرف أن حكوماتنا أعجز من ذلك فهي حكومات قصيرة اليد قاصرة العزيمة تنتظر دوما أمرا من جهة ما كي تتحرك ولا تتحرك إلا في إعادة انتاج فشلها. لذلك لن تحل مشاكل البطالة والفقر المستشري فبنسبة نمو لم تتجاوز الواحد بالمية سنة 2016 لن تكون سنة 2017 أفضل. هذا الوضع منتج للهشاشة الاجتماعية والتفقير وفي غياب إعلام وطني مستقل ومنتم لهموم الناس فعلا فإن المهمشين وقد خرجوا من الشارع وتركوه للحكومات يصيرون عرضة لكل الموبقات التي يخلقها الفساد.
الجميع الآن يتحدث عن الرشوة الفاشية في الإدارة وهذا فساد يحطم امبراطوريات لا دولا صغيرة فقط. وهو الفساد لا يمكن التبليغ عنه لأنه جزئي ومفتت والراشي فيه مستفيد لذلك يشهد حتما ضد المبلغ ويقف مع المبلغ به لأنه قدم له خدمة ولو بشكل فاسد. هذا النوع من الحلول الفردية هو الذي يشكل قاعدة سلوك عامة في تونس ولا يبدو أنه في وارد التوقف أو الانحسار. مما يجعلنا نستنتج أنه في غياب منوال تنموي جديد سيظل الأفراد يحلون مشاكلهم بطريقتهم وليس أمامهم إلا الحلول الفاسدة بواسط إدارة فاسدة لا يمكن اصلاحها إلا بإفقادها صلاحيات التحكم في أرزاق الناس
الإدارة التونسية فاسدة ومفسدة
هذا أيضا كلام عام وانطباعي وليس عليه دليل من أرقام وهو فوق ذلك يظلم موظفين أفاضل في هذه الإدارة غير أن الأفاضل لا يفلحون في الحد من فساد الماكينة الإدارية سواء على المستوى الفردي (مستوى خدمة الشخص للشخص) أو على المستوى الأعلى خدمة الدولة للمؤسسات.
إن أي معاملة إدارية بسيطة مما يمكن أن ينجز في ساعة من الزمن تأخذ بين يدي الموظفين أياما وأحيانا شهورا لكن إذا دخل المواطن من بوابة "نظام افرح بي" فإن مطلبه يتحقق بسرعة قياسية. نظام "افرح بي" هو نظام الرشوة وهي تسمية روجها زوار تونس من الليبيين خاصة عندما يتعرضون لمعاملات الرشوة في بوابات العبور إلى تونس ولنأخذ مثالا بسيطا من قطاع الصحة الحيوي.
يوجد في مستوى المستشفيات العمومية الكبرى ترتيب يسمح لاساتذة الطب باستعمال المستشفى العمومي وأدواته وأعوانه لمصلحتهم الشخصية (وقد حصلوا على هذه المكرمة تحت التهديد الدائم بالاستقالة وعدم تعليم طلبتهم من الأطباء المبتدئين) وعندما يأتي المريض لعلاج يجد أمامه خيارين إما انتظار الفحص ضمن الترتيب العام فيمنح موعدا بعد ستة شهور قد يموت فيها أو أن يفرح بالممرض والقيم على المشفى فيسرع علاجه بمقابل رسمي يوضع في جيب الطبيب البروفسير وبمقابل غير رسمي لمن يشتغل مع الطبيب من المساعدين الطبيين. هذا فساد مقنن حاول وزير الصحة في عهد الترويكا القضاء عليه فسقط الوزير وحكومته وبقي الفساد طبعا بمساعدة جبارة من النقابة التي تعلن الحرب على الفساد.
ومن آيات الفساد في تونس "بولة الشرطة" ففي سياسة مقاومة المخدرات يحصل أمر مستطرف إذ يعرض المتهم على الفحص الطبي لمعرفة مصداقية التهمة فتأخذ الشرطة عينه من بوله للتحليل المخبري لكن في خلوة الإيقاف يقوم الشرطي بيع عينة البول النظيف للمتهم فيكون التحليل سلبيا فينجو المستهلك ببول الشرطي ويكون خيرا للطرفين وخرابا للمجتمع. في هذا السياق يعرف مجال القضاء أحاديث كثيرة يخفي الجميع أدلتها لتستمر كبقعة للصيد فسنة السجن مقدرة عند بعض القضاة بألف دينار. ويشتغل بعض المحامين وسطاء رشوة بين المتهمين والقضاة.
هل يمكن مقاومة هذا الفساد بقانون حماية المبلغين؟ لا نملك إلا أن نتفاءل فرب عملية واحدة ناجحة قد تخيف الكثيرين فيرتدعون. أما الحل فليس بالقانون وحده بل بتغيير جذري في عملية بناء الاقتصاد الذي يغني الأفراد عن ذلة الرشوة
المدخل العسير إلى الحوكمة الرشيدة
مفردة الحوكمة الرشيدة تجري على ألسنة الناس في تونس مجرى الماء ولكن متى تبدأ وكيف وهل الأشخاص الماسكين بزمام التطوير الإداري المحوكم جديرون بمناصبهم وقادرون على إنجاز المطلوب يعسر عليّ الإجابة بنعم وإن كنت أود ذلك فالعلامات الصادرة حتى الآن لا تبشر بخير.
ما نسمعه عن حديث التعيينات في المناصب الخارجية والوظائف السامية خاضعة لمبدأ الولاء الحزبي والنقابي ولا علاقة لها بالكفاءة والمقدرة. يكتشف الموظفون العموميون كل يوم زملاء جدد يلتحقون بالعمل دون مناظرات. من أدخلهم ومن وجههم؟ لا أحد يجيب لكنهم يدخلون ويكتمون الخبر عن الواسطة. تلعب النقابة القوية دورا سلبيا جدا في هذا وقد وصل بها الأمر إلى فرض تقنين التوريث الوظيفي في القطاع العام ويجري الآن صراع قانوني في المحكمة الإدارية لإبطال نتائج تلك الانتدابات بعد أن تحولت إلى مكاسب للعاملين.
وقد كان تعيين المعتمدين (مسؤولون محليون) في شهر يناير فضيحة إدارية وأخلاقية للحكومة وللدولة فبعض الأسماء التي تسربت الى المواقع لم تحصل حتى تعليما يسمح لها بكتابة مذكرة إدارية من سطرين. وقد كانت تأثيرات الأحزاب فيها جلية وعلى أساس الانتماء الحزبي (وهو أمر غير مرفوض من حيث المبدأ لكن فقر الأحزاب إلى الكفاءات جعلها تلتقط من قارعة الطريق)وهذا فساد هيكلي في الاحزاب التي تعلن مقاومة الفساد فتستعمل فاسدين.
البلاد حابسة وتمركي
كتبت سابقا تحت هذا العنوان كناية عن عداد التاكسي الذي يواصل الحساب إذا انحشرت السيارة في اختناق مروري يدفع ثمنه الحريف الراكب. تونس لا تزال في نفس الوضع بنسبة نمو أقل من واحد بالمية. هناك إيهام بالحركة كإصدار قانون مقاومة الفساد لكن ذلك يتحول في ظل وضع اقتصادي كارثي إلى نكتة لا تضحك حتى قائلها.
ما الحل إذن؟ تفتق ذهن الرئيس وحاشيته على تعديل قانون استهلاك المخدرات بحيث تسقط العقوبة السجنية عن المستهلك لأول مرة. وانحرف النقاش بعيدا عن الاستحقاقات السياسية والاقتصادية للمرحلة. هذا النقاش الخارق في تحريف النقاش تخصص حكومي تونسي بامتياز. ففي كل معضلة حاسمة تخلق السلطة موضع توتر في مكان آخر تكون مهمته حرف التركيز على مشاكلها. ها نحن الآن بعيدون عن محاربة الفساد فعلا وعن جر الحكومة إلى مربع تحقيق أهداف ثورة الحرية والكرامة. لكن كثير منا صار يرى الحرية في استهلاك المخدرات بلا عقاب. لم يكن هذا يوما على جدول أعمال الثورة لكنه صار ويصير فيصير الفساد بعض من حياتنا اليومية وسنفرح بنا طبقا لقانون "افرح بي" فنحن نقدم لأنفسنا وبأيدينا رشوة الغفلة كي نشعر بالسعادة. إذن لندخن الماريغوانا في حفل جماعي ونحسن الظن بالحكومة وهذه أول آثار الزطلة.