تم عقد ثلاثة مؤتمرات في الآونة الأخيرة متعلقة بفلسطين: أحدهما في طهران وتخصص بدعم انتفاضة القدس، والثاني في القاهرة أقامه دحلان ومؤيدوه، والثالث وهو الأهم والأكبر في اسطنبول واهتم ببحث المستقبل
الفلسطيني. وفي كل هذه المؤتمرات لم تكن سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني حاضرة، وربما كان وجودها من أهم عوامل عقد هذه المؤتمرات.
بغض النظر عن دوافع القائمين على هذه المؤتمرات، هناك حاجة فلسطينية ملحة للاجتماع والتفكير معا لأن الوضع الفلسطيني مأزوم للغاية، ومكانة القضية الفلسطينية متدهورة، والحقوق الوطنية الثابتة للشعب تتعرض للانتقاص الحاد والتهميش. من المطلوب أن يتداعى الفلسطينيون وكل الحريصين على الحقوق الفلسطينية للقاء والتشاور، والبحث معا عن بوابات للخروج من المآزق والورطات الفلسطينية التي أقامها اتفاق أوسلو وملحقاته.
مؤتمر اسطنبول كان الأضخم، وحضره ما يزيد عن خمسة آلاف شخص أتوا من حوالي خمسين دولة، وتداولوا في مختلف الشؤون الفلسطينية، وعقدوا عددا من الندوات والمحاضرات. سادت المؤتمر أجواء وطنية فلسطينية تميزت بالغيرة على فلسطين وشعبها، وبالحرص الشديد على المصالح الفلسطينية والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وقد كان واضحا قلق المؤتمرين على ما آلت إليه القضية الفلسطينية من تدهور في مكانتها على مختلف المستويات، ولولا هذا القلق لما حضر هذا العدد الكبير إلى اسطنبول.
لوحظ أن إجماعا قد ساد المؤتمرين حول سوء اتفاقية أوسلو وما جرته من ويلات وآلام وورطات للشعب الفلسطيني، بخاصة فيما يتعلق بالانقسامات الداخلية والاقتتال الدموي والتعاون الأمني مع الصهاينة. أجمع الجميع على ضرورة العمل على الخروج من المآزق الحالية، والعمل بجد واجتهاد من أجل الخروج من نفق أوسلو المظلم، وإعادة الروح الوطنية الأصيلة للشعب الفلسطيني.
اختلف المؤتمرون حول مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، ودورها في ترتيب الأوضاع الفلسطينية. الأغلبية كانت ناقدة بشدة للمنظمة، ورأت أنه من الضروري أن يبحث
الشعب الفلسطيني عن عنوان جديد. رأى هؤلاء أن منظمة التحرير فقدت شرعيتها بسبب عدم التزام مجالسها ومؤسساتها بالمبادئ الأولى للشعب، وبسبب مخالفاتها للوائحها الداخلية التي تعتبر قوانين تنظيمية. فمثلا من المفروض أن يجتمع المجلس الوطني الفلسطيني مرة كل سنة، لكن سنوات طويلة مرت عليه دون اجتماع.
أما اللجنة التنفيذية للمنظمة، فقد أكل عليها الدهر وشرب، ولم تتجدد فيها الدماء. وقفت أقلية مع منظمة التحرير وقالت إنها ما زالت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ويجب التمسك ببقائها. لم تكن الأقلية راضية عن أداء المنظمة، لكنها رأت أن وجودها ولو كان شكليا أفضل من التخلص منها. ومن حيث إن المؤتمرين كانوا معنيين بالحفاظ على وحدة الصف، قبلت الأغلبية بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني.
رأى الجميع أن منظمة التحرير بحاجة إلى إصلاح جذري يعيد لها الحياة. رأوا ضرورة إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني حيث أمكن، وضرورة مشاركة مختلف القوى الفلسطينية في إعادة الترتيب وفي المجالس المختلفة مثل المجلس المركزي واللجنة التنفيذية والمؤسسات الأخرى التابعة للمنظمة.
انتهى المؤتمر ببيان طويل شمل العديد من البنود المتعلقة بمختلف الشؤون الفلسطينية. وكان من أهم هذه البنود التمسك بتحرير كامل التراب الفلسطيني، والتخلص من اتفاقية أوسلو وما ترتب عليها من التزامات فلسطينية لصالح
الاحتلال؛ أي وقف الجميع ضد التنسيق الأمني وضد التطبيع وشراء البضائع الإسرائيلية. لكن المؤتمر افتقد إلى أمرين وهما: أدوات الضغط على منظمة التحرير وعلى السلطة الفلسطينية من أجل أن تستجيبا للمطالب الفلسطينية، وهيكلية تنظيمية تتحمل مسؤولية تنفيذ بنود البيان الختامي.
من المفروض أن يتم تشكيل هيئة رئاسية للمؤتمر لمتابعة ما تمخض عنه من بيان عام، وإلا فإن المطالب لن تتعدى الإشهار الإعلامي الذي لن يسمن ولن يغني من جوع. أو كان من المفروض إنشاء مكتب باسم المؤتمر يتولى متابعة الشؤون الفلسطينية ويبقى على التواصل مع جميع الذين حضروا المؤتمر، ويستمر في حشد الطاقات الفلسطينية لتتسع دائرة الضغط باتجاه التمسك بالحقوق الفلسطينية. والمؤتمر انتهى دون تحديد أدوات ضغط على منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية.
كيف ستستجيب المنظمة والسلطة لاهتمامات المؤتمر إن لم تُمارس ضغوط حسية وليس مجرد أدبية على الجهتين. الشعب الفلسطيني في أغلبه يتذمر من الوضع القائم في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن كل التذمر والصراخ الذي يطلقه الناس والجمعيات لا يلقى آذانا صاغية لا من المنظمة ولا من السلطة، اللتين يقودهما شخص واحد متفرد وهو محمود عباس.
كان من المطلوب تحديد بعض الضغوط السياسية والنشاطات الجماهيرية في الداخل والخارج من أجل إحداث التغييرات المطلوبة، وأيضا التهديد الجدي بإنشاء عنوان جديد للشعب الفلسطيني بدل منظمة التحرير التي أصبحت عنوانا إسرائيليا لإثبات حقوق يهودية في فلسطين. كان من المطلوب أيضا تشكيل لجنة لإعادة صياغة الميثاق القومي الفلسطيني بطريقة تأخذ بالاعتبار مختلف التطورات التي طرأت على القضية الفلسطينية.