بحكم تضخم الصراعات الثقافوية التي تشق المجتمع التونسي، وبحكم عجز النخب كلها عن وضع الصراع في مداراته التحررية الحقيقية، كانت قضية المرأة قبل الثورة وبعدها من أكثر المسائل التي عمّقت الانقسامات بين النخب العلمانية والإسلامية. ورغم طابعها السجالي- بل ربما بحكم طابعها السجالي الخطير ذاته- قد تكون قضية المرأة–وما يسودها من خطاب معياري"نسوي"- من أقدر المسائل على تضييق مساحة اللامفكّر فيه عند بعض رموز نخبتنا الحداثية، التي مازالت تسيطر على إنتاج الرموز وإعادة إنتاجها، حتى بعد أن تصبح "لاوظيفية" وغير مستجيبة للحاجيات الفعلية لأغلب المواطنين "الواقعيين"، لا أولئك "المواطنين" الذين لا يوجدون خارج الخطابات ورهاناتها الشخصية والفئوية والجهوية.
وسيحاول هذا المقال بمناسبة اليوم العالمي للمرأة أن يُفكر "مع" الخطابات النسوية الحداثية و"ضدها" في قضية "اللباس"؛ لبيان محدودية "أحادية الصوت" مهما كانت قيمة ادعاءاته الذاتية. وسنسعى إلى تضييق مساحة اللامفكر فيه عند أغلب النخب الحداثية، بحكم خلفيتها اللائكية الفرنكفونية التيكادت أن تتحوّل -في سياسات التحديث الفوقي والخيارات الثقافية التغريبية- إلى ديانة وضعية تنافس الديانات التقليدية وظائفها في المستويين الفردي والجماعي.
يمكن النظر إلى قضيّة "اللباس" في أدبيات الرافضين لكل تجلّيات الإسلام السياسي (القانونية وغير القانونية) باعتباره بدلا من مبدل منه "أصلي" هو "الحجاب"، بعد هدوء حدة الهجمة على الحجاب الذي لم يعد حاملا لدلالات أخلاقية أو إيديولوجية مخصوصة، على عكس النقاب. تاريخيا، لم يكن النقاب هو اللباس الأساسي المقصود بانتقادات النزعات النسوية في صيغها الأكاديمية البحثية، أو في تجلياتها الإعلامية "التنويرية"، إذ كان المستهدف بالنقد دائما هو الحجاب الذي ارتبط في ظهوره وانتشاره في تونس بحركة الاتجاه الإسلامي (النهضة لاحقا). وقد كان الحجاب من أكثر "الرموز الدينية" التي تمّ "تسييسها"؛ وذلك لتبرير التعامل الأمني معها في عهد المخلوع باعتبارها تجلّيا لاختيارات سياسية "ممنوعة"، بحكم القانون (خاصة بعد الهولوكست الذي طال الإسلاميين في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، بصرف النظر عن مدى تحمّل الحركة الإسلامية نفسها لبعض المسؤولية في ذلك ). إنّ الحجاب/النقاب بهذا المعنى هما "الخارج المطلق" –على حدّ تعبير جاك درّيدا؛ أي "الشرّ المطلق" الذي لا يمكن قبوله أو التعامل معه أو تبريره، وليس لهما من وظيفة إلا وظيفة سجالية واحدة، هي بيان "الخير المطلق" الذي يسكن خطاب من ينتقدهما أو يكشف "حقيقتهما الخفّية".
تتأسس الخطابات النسوية الحداثية على ثنائية أساسية توضع موضع التقابل المطلق، لا موضع الجدل والمحاورة "الندّية" ألا وهي ثنائية إسلام/ حداثة. وبالطبع، فإنّ الإسلام هنا يُختزل في "الفقهيات" التي تُختزل هي الأخرى في"مصطلح العورة"، وتعدد الزوجات وعدم المساواة في الميراث، مثلما تُختزل الحداثة في "حقوق الانسان" التي تُختزل هي الأخرى في مفهوم"الحرّية"، بعد أن يوضع في تقابل مطلق مع الشريعة "أساسا"، ومع كل المحددات الدينية (بل حتى العرفية) لتنظيم المجال العام وإدارته. ولا أحسب أنّ هذه المقاربة "الثقافوية" الاختزالية تستطيع أن تعقل ظاهرة "الرموز الثقافية" في أشكالها الدينية أو "المُعلمنة"، كما لا أتصوّر أنّ الإصرار على العلاقة "التنابذية" الصدامية بين الإسلام والحداثة يعكس "عقلا تواصليا" حواريا بقدر ما يعكس عقلا دوغمائيا، يعيد إنتاج الأطروحات المأزومة نفسها، التي هيمنت على المجال العام منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
تفترض الأطروحات النسوية – ومنها صيغتها "المُتَونسة"– وجود ما تُسمّيه الباحثة "إليزابيث سبيلمان"بـ "المرأة الأساسية"، وهي تلك المرأة "غير المحجّبة" و"غير المنقبّة" التي تمثل المرأة "السويّة"، بحيث يكون حجاب المرأة (أو نقابها) انحرافا عن تلك الوضعية الأصلية/السوية، وخرقا لقوانين الاجتماع "الطبيعية". وبصرف النظر عن القيمة "الأنثروبولوجية" المشكوك فيها لهذه الوضعية "الفطرية" للمرأة، فإنّ التعامل مع مسألة اللباس –بما هو خيار فردي أو جماعي-، يفترض من أي عقل"موضوعي" أن يتخذ "مسافة نقدية" من الموضوع المدروس، حتى لا تكون مواقفه واختياراته الإيديولوجية عائقا أمام تقديم صورة "موثوقة" لصراع الرموز وحركية الظواهر الدينية وكيفيات التعامل "الأمثل" معها، بعيدا عن "التسييس" والأدلجة والمقاربة الأمنية، وهو مطلب لا يبدو أنّ أغلب النخب المهيمنة على المشهدين الثقافي والإعلامي قبل الثورة وبعدها تحقق فيه أيّ نجاحات.
عندما يضيق مفهوم الحرية عند أغلب النخب الحداثية بـ "تفهّم" أو احترام الحاجات النفسية والروحية لمن يختار لباسا ما (بصرف النظر عن مواقفنا الشخصية منه)، عندما تعجز تلك النخب عن تجاوز الانفصامية وازدواجية المعايير بحيث لا ترى في "الحجاب/النقاب" تعبيرا عن حرية شخصية تدار بطريقة مختلفة، فإنّ وعي تلك النخبة سيحتاج إلى خلخلة كبرى حتى يستطيع أن يساوق الوضع الثقافي "الجديد"، الذي لا يمكن مقاربته بشبكة تفسيرية (بل تبريرية) شكّلها الاستبداد "السياسي" وما يسنده من "الأشكال الرمزية"، تلك الأشكال التي لا تعكس إلا القليل من اداعاءتها الذاتية من مثل تعددية الصوت وقبول الاختلاف والمغايرة والنقد الذاتي والانفتاح والحوارية، وغيرها من المفاهيم المؤسسة للعقل الحداثي التونسي"نظريا" والمغتربة عنه "واقعيا".
لا شك في أنّ رفض النخب الحداثية للنّقاب (ومن قبله للحجاب) لا يدخل فقط في باب الصراع مع خصم سياسي معين، بل هو يدخل أيضا في باب رفض أشكال السيطرة"الدينية" ما قبل الحداثية على جسد المرأة، وما تعكسه تلك السيطرة من تراتبية اجتماعية ودلالات قيمية غير مقبولة من منظور الحقوق الأساسية للإنسان بالمعنى الحديث للكلمة. ولا شك أيضا في أنّ المخاوف من الرموز الثقافية الإسلامية هي مخاوف مشروعة في جزء منها؛ لأن تلك الرموز حسب الطرح النسوي الحداثوي (خاصة فيما يتعلق باللباس)، قد تكون مدخلا لردّة نسقية عن مكاسب المرأة التي ضمنتها مجلة الأحوال الشخصية، باعتبارها مقوّما من أهم مقوّمات ما سُمّي بـ "النمط المجتمعي التونسي".
ختاما، فإنّ تلك المخاوف -على مشروعيتها- لا ينبغي أن تمنع نخبتنا الحداثية من التفكير في المسألة التالية: هل إنّ تعامل "الحداثة المُتونسة" مع جسد الأنثى –ومع روحها- هو تعامل أكثر إنسانية وأقل "مركزية ذكورية"، من التعامل التقليدي القائم على تبرير "الوضعية الدونية" للمرأة بمسّوغات "شرعية" ذكورية في أساسها؟ ولو شئنا صياغة الإشكال بطريقة أخرى لقلنا: متى تتحرر المرأة في بلداننا المتخلفة من وضعية "فرس الرهان" في استراتيجيات الهيمنة الذكورية، لتصبح ذاتا فاعلة لا تقبل أن تؤدي دور "الموضوع" في أي صراع ثقافوي بائس، ينزاح بها –باعتبارها مواطنة- عن مدارات الصراع الاجتماعي والاقتصادي الحقيقية؟
تعقيبي على المقال سيكون بمثابة لتعبير ن الإعجاب بالمقال إعجابا شديدا على مستوى التأطير والمنهجية والفكرة والصياغة... وكم أتمنى أن نشهد إبداعا مماثلا من النخبة العاملة في الحقل الديني ومسائلةً لهم للإشكالات المطروحة والمزمنة، والتي كانت ولا تزال تغذي الباحثين عن استدامة العقلية التي أسميتها "المنابذة.
إذا كانت مقاربات الحداثيين واضحة حول قضية المرأة، باعتبار أنهم متحللون عموما من النصّ الديني بدعاوى شتى، فإن مقاربات الإسلاميين يعتريها بعض الغموض و"التحايل" على الموروث الفقهي على المستوى الفكري، والبراغماتية على المستوى السياسي. وأعلل رأيي في هذا الشأن بطرح بعض الأسئلة: هل كرم "الإسلام" (أقصد هنا نص "الشريعة" الذي يحتوي التفسير الأثري للنص الإلهي والإضافات البشرية تحت مسمى "الحديث" والفقه...) المرأة فعلا؟ أم أن هذا الكلام لا يعدو أن يكون خطابا إنشائيا ينتقي من الموروث ما لا يتصادم مع الثقافة الراهنة ويحاول تنسيب الفج منه باعتماد فكرة السياق التاريخي ومقاصد الشريعة...؟
ألا يتم تدريس الفقه المتعلّق بالمرأة إلى اليوم بالتركيز على حرمة كشف المرأة لشعرها، وحرمة صوتها إذا غنّت أمام جمع مختلط والآراء المخالفة شاذة لا يُعتدّ بها)، وإمكان اتخاذها جارية يحل وطئها بدون عقد نكاح، جارية عورتها فقط ما بين الركبة والسرة بخلاف الحرة... وأنه يجوز ضربها ماديا؟ وأن التعدد جاء لأسباب منها إشباع غريزة الرجال الذين لا يمكنهم الإكتفاء بامرأة واحدة... وأن المرأة لا تسافر أكثر من 3 أيام إلا مع محرم؟... وأنّ على المرأة السمع والطاعة لزوجها، وأن مهمتها الأساسية رعاية في بيت زوجها و"أولاده" و"ماله"، وأنه يجوز تطليقها بمجرد النطق الشفوي لزوجها (الذكر) بكلمة الطلاق، وأنها الضلع لأعوج، وأنه ينبغي أن تكون مهيأة دائما على تلبية حاجة الرجل الجنسية، وأنها فتنة للرجل، وأنه لا يجوز لها ولاية الأمر، ولا يتناسب معها عموما المشاركة في الشأن العام إلا استثناءا، وأنه لا يجوز لها الخروج من منزلها متعطرة، وأنها ناقصة عقل ودين، وأن أكثر أهل النار من النساء...
وهذه الأقوال وغيرها تستند جميعها إلى عشرات "الأحاديث صحيحة السند"، وهو "فقه يجمع على القول به السلف من علماء الطائفتين، وما سوى غير هذه الإجماعات إلا محاولات لرفع الحرج عن "الإسلام" بمحاولات تأويل النصوص الحديثية تأويلات متعسفة ومتكلفة لا يمكنها التأسيس لتجديد وتأصيل فعلي وحاسم لما يتعلق بالمرأة والأسرة عموما من تشؤيعات دينية
وقد قرأت لك أخي عادل في منشور سابق "تصحيحك" لحديث "ما أكرمهنّ..."على رغم حُكم عليه الألباني وغيره بالوضع (درجة حاسمة تتجاوز الضعف)، وهو يعبر في تقديري عن هذه الإشكالية في التعامل مع الموروث الديني: انتقاء لما نحمله من قناعات... بحيث أننا مقتنعون تماما بالمستوى القيمي الممتاز لديننا الحنيف، وبأن جوهره خير ورقي وكرامة للإنسان، وحرب على الظلم والشر... ولكن الشريعة لا تقوم على القناعات الذاتية، ولكن على الأدلة (أصول الفقه) التي أسسها الشافعي وتم تفصيلها وترسيخها من بعده... وعليه، فلابد من تأسيس خطاب جديد يستمد أسسه من النصّ الديني (بعد تحديد حدوده ومنهجية قراءته) لا يكون مسقطا على هذا النصّ من أجل مراعاة الواقع، فهو السبيل الأمثل لتجاوز حالات التحايل على النصّ باعتماد استراتيجيات مختلفة
ولن أقدم حلولا، ولكني أعتقد أنه على الإسلاميين الذين يعملون في مجال الأصول أن يتحلوا بالشجاع الفكرية، والمسألة ليست سهلة لتداخلها مع المقدس، ويساءلوا هذه المنظومة على مستوى أسسها، وفي شأن المرأة مثلا... وإذا ما اعتبرنا النصّ القرآني هو الأصل الذي يمكن توصيفه بالحق والقطعية على مستوى ثبوته وتعاليه على مستوى صياغته (وهي قناعتي اليوم)، فإن التعدد جاء في سياق الكفالة باليتامى، والضرب جاء بمعنى أعمّ من المعنى المادّي، والأسرى (رجالا ونساء) لا يمكن التعامل معهم إلا بطريقة المنّ أو الفداء، والطلاق صيرورة (processus) لا قرارا لفظيا لأحد الطرفين، وأنه لا فرق بين خلق الرجل والمرأة إلا على مستوى تفصيلية مرتبطة بمبدأ الزوجية، وأن غيب الجزاء لا يعلمه إلا الله تعالى، وسيكون الحساب فرديا لا معيارية فيه للرجل والمرأة، وأن اللباس لم تكن قضية مركزية في هذا الصدد، بل هي تبدو المقاربة فيها حدودية، لا حدّية (وكلمة حدرد في القرآن لم تأتي إلا في سياق الحيث عن الأسرة والمرأة)...
والمسألة بحاجة إلى عمل كثير ومجهود جبار... ليس فقط فيما يتعلق بمسألة المرأة، ولكن أيضا بكافة المسائل التشريعية والغيبية... تحياتي، وعذرا على الاستطراد والإطالة