في السجن؛ حيث يُزجَّ بالأسير في جوف كتلة إسمنتية صمّاء، تحيطها القضبان والأسلاك الشائكة، يصير الوقت بطيئا وثقيلا، والهواء مشبعا بطعم الملح، تفوح منه رائحة البرودة والخوف والانتظار المشوب بالقلق، وحيث يمزق صمتَ الليل أصواتُ المعذبين وآهاتهم، حين تهوي عليهم سياط البعد عن الأحباب، وتكوي جلودَهم نداءات أشواقهم المخنوقة، وتفترسهم أحلام التحرر وصور العالم الخارجي، حيث تنسكب أيامهم تباعا، ببطء وألم.. وتُسفك بدم بارد، شهرا بعد شهر، وسنة تلو أخرى.. يعيشونها برتابة مضنية على بصيص أمل وحيد؛ يوقدون جذوته كل صباح: التحرر.
وحسب مركز
الأسرى للدراسات، يوجد ما يزيد على 7000 أسير في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، يعانون من أوضاع بالغة الصعوبة، حيث تراجعت إدارة السجون عن كثير من المنجزات التي حققها الأسرى سابقا، وفرضت عليهم مزيدا من القوانين التعسفية التي تتعارض مع اتفاقية جنيف، وتفتقر لأبسط معاني الإنسانية، مثل منع الزيارات، العزل الانفرادي، الاعتقال الإداري، حملات التفتيش الاستفزازية واقتحامات الغرف ليلا، سوء الطعام كما ونوعا، النقل الجماعي، ظروف الاعتقال التي تفتقر للحد الأدنى من شروط الحياة الآدمية، الإهمال الطبي.
ولذلك؛ وبعد فشل وسائل الحوار والضغط الأخرى؛ وبعد مشاورات معمقة بين قيادات الحركة الأسيرة، سيخوض نحو 4500 أسير فلسطيني بقيادة "مروان البرغوثي" إضرابا مفتوحا عن الطعام.. للمطالبة بجملة من الحقوق الأساسية التي تكفلها القوانين الدولية لأي أسير.
والإضرابات أحد أهم الأشكال الكفاحية التي تعتمدها الحركة الأسيرة، والتي استطاعت بفضل تضحياتها الجسيمة تحسين ظروف الأسرى وانتزاع العديد من حقوقهم المشروعة، فبعد أن كان ممنوعا عليهم إسناد ظهورهم إلى الحائط طيلة النهار، وكانوا محرومين من أبسط الحاجات الإنسانية، حققوا بفضل الإضرابات منجزات بالغة الأهمية، مكّنتهم من الصمود.. ومع ذلك تظل ظروف الأسرى صعبة وقاسية، ودليلا على وحشية وعنصرية الاحتلال، لاسيما إذا قارناها بظروف السجناء الإسرائيليين، الذين يتمتعون بمزايا كثيرة، منها الزواج، وزياره أهاليهم، واقتناء تلفزيون.
وقد بدأ هذا الشكل النضالي القاسي والصعب العام (1969) في إضراب سجن الرملة، ثم تلاه 25 إضرابا جماعيا كان آخرها في (2012)، وأشهر تلك الإضرابات إضراب سجن عسقلان (1970) والذي استشهد فيه "عبد القادر أبو الفحم"، ثم إضراب سجن نفحة (1980) الذي استشهد فيه "راسم حلاوة" و"علي الجعفري" ثم إضراب سجن جنيد (1984) الذي استشهد فيه "محمود فريتخ".
ولهؤلاء الأسرى الأبطال حقٌ علينا؛ أن نتضامن معهم بكافة الأشكال المتاحة، أن نذكرهم باستمرار، ونتخيل شكل حياتهم، ونشعر بمعاناتهم.. لأنهم شهداؤنا الأحياء، وضميرنا الوطني، ورمز عدالة وأخلاقية نضالنا.. الذين ما زالوا في خندق الاشتباك المتقدم، يقارعون الاحتلال بإرادتهم وصدورهم العارية.
وقد اختير يوم البدء بالإضراب ليأتي متزامناً مع "يوم الأسير الفلسطيني"، وفي ذلك دلالات رمزية كبيرة، فهذا اليوم، يعيد تذكيرنا كل سنة، وتذكير العالم بأسره، بأن قضية الأسرى الفلسطينيين هي قضية الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، وهي من بين أهم القضايا الإنسانية والسياسية والقانونية، التي تجاوزت كل حدود المعاناة، وتضعنا جميعا (شعبا، ومنظمات حقوقية ومؤسسات مدنية وفصائل وقيادة سياسية) أمام مسؤولياتنا الوطنية والأخلاقية تجاه الأسرى.
وإذا كان متوقعا، كما جرت العادة، أن يُحدِث الإضراب ضجة إعلامية كبيرة محليا وخارجيا، وأن تنطلق سلسلة من الفعاليات الشعبية لمساندة الأسرى، وإظهار تضامننا معهم، فإنه في حقيقة الأمر إنما نتضامن مع أنفسنا أولاً؛ فقضية الأسرى هي قضية الشعب والمجتمع الفلسطيني برمته، إذْ أصابت عمليات الاعتقال المجتمع الفلسطيني بكل تكويناته، ويكاد لا يوجد بيت فلسطيني إلا واعتقل أحد من أبنائه أو بناته. وحسب إحصاءات لمراكز متخصصة، فإن نحو ثلث الشعب الفلسطيني دخل السجون على مدار سني الصراع الطويلة مع الاحتلال، حيث يقدر عدد حالات الاعتقال منذ العام 1948 بنحو 800.000 حالة، في واحدة من أكبر عمليات الاعتقال التي شهدها التاريخ المعاصر.
ومن المتوقع أن يكون الإضراب الحالي أكبر الإضرابات الجماعية للحركة الأسيرة، وستسوده روح الوحدة الوطنية.. وعادة تلقى إضرابات الأسرى تعاطفا كبيرا من الشارع الفلسطيني، واشتداد حدة المواجهات الجماعية الشعبية، لذلك، سيشكل الإضراب رافعة جديدة للكفاح الفلسطيني، قد تصل إلى انتفاضة شعبية، تعيد الحالة الفلسطينية إلى حيث يجب أن تكون: في موقع الاشتباك مع الاحتلال، بحيث تخرج القوة الشعبية من القمقم التي حشرت فيه في مرحلة سلبية شهدت حالة من الضعف والتراجع.. وتعيد أيضا حركة فتح، إلى موقع الصدارة والريادة في قيادة الكفاح الفلسطيني، ذلك الموقع التي تربعت عليه عقود طويلة، والذي تزعزع بعض الشيء في العقد الأخير، بعد سلسلة من الإخفاقات والأزمات الداخلية، وتراجع الروح الكفاحية في صفوف الحركة.
وإذا استخدمت إسرائيل الأسرى ورقة ضغط ومساومة وابتزاز للفلسطينيين، فإنها فرصة للقيادة، لقلب المعادلة، والبدء بحملة إعلامية ودبلوماسية مكثفة لفضح صورة إسرائيل وكشف ممارساتها التعسفية، وطرح قضية الأسرى بمعزل عن قضايا الحل النهائي.
وتاريخ الحركة الوطنية الأسيرة كان وما زال عاملاً مؤثراً في تاريخ الثورة الفلسطينية، رغم ما تكبده الشعب الفلسطيني بشرائحه المختلفة من ويلات السجون والاعتقال، وطالما كانت السجون أحد أهم روافد الكفاح الفلسطيني، تمده بالكوادر والقيادات من جهة، وتلهب الروح الشعبية، وتنعش انتفاضاته بالدماء من جهة أخرى.. فقضية الأسرى والكفاح الوطني ترتبطان بشكل عضوي بالتطلع إلى الحرية، والحياة الإنسانية وإلى المستقبل.
أخيرا، ولمن يزعم أن "مروان البرغوثي" أراد الإضراب لتلميع صورته، نقول لهم، مروان ليس بحاجة لتلميع.. مروان قائد شعبي حقيقي، وقد مضى على أسره أكثر من خمسة عشر عاما، وسبقتها خمس سنوات أخرى.. يعني أمضى ثلث حياته في الأسر.. وجل حياته في النضال.. وهو اليوم يمارس دوره الطبيعي في القيادة.. والبطولة.
وبغض النظر عن امتناع بعض الفصائل عن المشاركة في الإضراب، لنترفع عن الخلافات الحزبية، ولننطلق إلى أوسع مساندة شعبية لإضراب الكرامة: معركة الحرية التي يخوضها الأسرى بأمعائهم الخاوية، بإضرابهم المفتوح عن الطعام.
الأيام الفلسطينية