التنافسية الحزبية:
حين أتحدث عن قضية "التنافسية"؛ ربما يقال إن هذه المسألة قد تم تجاوزها منذ زمن تنظيراً وتطبيقاً، من خلال ن الحركة الإسلامية - بمختلف أطيافها التي تتبنى العمل السياسي - في تلك المساحة مشاركة ومنافسة، ومن ثم فلا حاجة إلى إعادة الكلام في إشكالية أشبعت بحثاً وتمت معالجتها وتفكيك مختلف عقدها المعرفية والنظرية، ومن ثم الإجابة على مقتضياتها حتى استقر الرأي على أهميتها، وربما وجوبها مراعاة للمصالح التي تحققها كما بينت التجارب!
وهنا أذكّر بعنوان السلسة "منطلقات.. تحت المجهر"، وكنت أشرت في أول مقالاتها أني لا أتبنى رأياً مسبقاً في القضايا التي أطرحها على طاولة البحث الموضوعي، وإنما أشارك مع القراء أفكاراً مرتحلة تبحث عن مستقر على طاولة النقد الموضوعي البنّاء.
لقد استوقفني في صحيح البخاري حديث في باب "ما يكره من الحرص على الإمارة"، وفيه أن رسول الله قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة". وقال شرّاح الحديث إن قوله: "نعم المرضعة"، يعني أولها لما فيها غالباً من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها، وقوله: "بئس الفاطمة"، أي آخرها عند الانفصال عنها لأن معه القتل والعداوة في الدنيا، وما يترتب عليها من الحسرة والتبعات في الآخرة.
لا أريد بسوق هذا الحديث بداية أن أبحث موقفي عن مستند شرعي، قد يعتبر دغدغة للعواطف أو محاولة للحجر على الرأي المخالف بحشره في مواجهة نص صريح. إنما أردت فقط التدليل على أن حب السلطة والجاه والشهرة طبيعة بشرية، ولا مبالغة إن قلت إنها علامة واضحة في أمة الإسلام، كما ورد في الحديث.
وأضيف لذلك أن مجتمع المدينة المنورة لم يعرف أحداً أشد عداء لرسول الله من عبد الله ابن أبيّ ابن سلول زعيم المنافقين، فقد كان قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح ملكاً متوجاً في المدينة، قبيل الهجرة التي اعتبرها السبب المباشر في حرمانه من هذا الجاه والسلطان، وكان هذا كافياً في حساباته الدنيوية كي يناصب النبي والذين آمنوا معه العداء انتقاماً منهم.. إذن هو السلطان وشهوة الجاه الضائع.
بل من واقع التجربة العملية، لو حاولت إدارة مسجد ما إعفاء إمام "متطوع" لديها من "وظيفته"، لثار عليها وجمع توقيعات المصلين ومن يثق بهم لمساعدته على التشبث بهذا الموقع، رغم أنه لا يتقاضى عليه أجراً. فما بالك إذا كان عملاً بأجر؟! لا شك سيكون شعاره في معركة المنصب "قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، وهذا مع الإمام الذي يعلّم الناس الإيثار والزهد وعدم التصدّر، ويفترض فيه البعد عن الرئاسة والمنصب. فكيف بما فوق ذلك من مناصب ذات وجاهة اجتماعية وميزات هائلة وثروات لا تحصي؟!
الحركة الإسلامية وتبعات المنافسة:
حين تخوض الحركات الاسلامية حلبة المنافسة على أي منصب أو مكانة - مستحقة كانت أو غير مستحقة – فإنها تصبح طرفاً في معادلة الإمارة، وبالتالي تكتسب عداوة من تنافسهم، وربما تربّصوا بها وأشاعوا عنها السوء. حتى في المجال التطوعي كالنقابات المهنية، تكون قد أوجدت لها أعداء ومتربصين وحاقدين بغض النظر عن نتائج الانتخابات. ذات الأمر ينطبق على انتخابات البلديات والمجالس النيابية إلخ... والبديهي أن العلاقة بين مردود المنصب ونشوء عداوات هي علاقة طردية. لذا لم يكن مستغرباً حين تبدلت حال بعض الحركات أن وجدت من يلعنها أكثر مما تخيل منتسبوها، وربما كان هؤلاء المجاهرين بالعداوة أكثر المستفيدين يوماً ما من خدماتها الخيرية أو معوناتها الاجتماعية.
هو الانسحاب إذن؟
هل يعني هذا أن تبتعد الحركات الإسلامية عن المنافسة أياً كانت تجنباً لتلك العدوات؟ أو كما يحلو للبعض أن يسميه اتباع "سياسة الكرسي الشاغر والانتظار السلبي" إلى حين وجود ظروف ملائمة؟
أعتقد أن هذا قرار تتخذه كل حركة بما يوائم تحقيق أهدافها ووسائلها وتطلعات أعضائها والمناخ السياسي العام في وطنها. فمن المعلوم في دنيا السياسة والعمل الحزبي بالضرورة - لو صح هذا مجازاً في دول العالم الثالث - أن كل من ينتمي إلى حزب يتطلع إلى "المصلحة" صغرت أم كبرت، وسواء كان هو صاحب المنصب أو من بطانته والمقربين. لكن الكارثة أن تدخل تلك المنطقة الوعرة لتنافس فيها من منطق الزهد والورع، أو تظن أنك ستكون صديق الجميع.
ولعلي هنا أشاطر بعض المراقبين رأيهم أن مرحلة الانخراط في المجال السياسي وفق قواعده الحاكمة – وأبرزها الاحتكام إلى آلية الصناديق والتنافسية السياسية الحزبية - لم تنضج بشكل كامل على المستويين التنظيري والثقافي لدى الحركات الإسلامية قبل ولوج حلبة المنافسة، وظهر ذلك حينها في الممارسة التي هي نتاج العوامل السابقة، فكانت حالة الحذر والضبابية حاضرة.
ماذا عن الفصل؟
لعل قضية السياسي والدعوي من أعقد ما واجه الحركات الإسلامية، بعد خوضها غمار السياسة بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة وخاصة في تجارب "الربيع العربي"، وبنظرة عابرة لبعض تلك التجارب وما صاحبها من تطورات فإننا نلاحظ من ينادي بـ"الفصل" التام بين السياسي والدعوي، بينما يتلطف البعض الأخر فيختار مجرد "التمييز" بين المجالين، في مقابل من يرفض كلا الأمرين باعتبارهما "علمنة" لتجارب سياسية انطلقت من "مرجعية إسلامية" – وفي تقديري هذا رأي القطاع الأكبر من تلك الحركات.
بصفة عامة، أعتبر ذلك النقاش أحد مظاهر التفاعل الفكري الذي يحاول إعادة تقييم مسألة الممارسة السياسية بما تكتنفه من تنافسية، إضافة إلى تشريح نمط العلاقة التراكبية التي تربط تلك الحركات بالمجال السياسي من خلال
أحزاب أسستها أو أفرزتها، كما أنها محاولة للإجابة على سؤال: هل ترقي تلك الممارسة بالفعل إلى السياسة الحزبية بمفهومها الحقيقي، أما أنها لا زالت تراوح في مساحة ضبابية يتداخل فيها التربوي بالدعوي بالسياسي الحزبي التنافسي؟
لكن اختزال العملية التنافسية في فصل الدعوي عن الحزبي، بينما الجميع أبناء حركة واحدة، هو تبسيط مخلّ لقاعدة التعامل مع التنافسية، بل يجعله في نظر البعض فصلاً شكلياً لا أكثر، بينما تبقى تلك الحركة بمثابة الاحتياطي التنظيمي والانتخابي للأحزاب. ويزيد الأمر تداخلاً حين تطغى الأجندة السياسية على بقية المسارات، حتى قال البعض إن رمال السياسية المتحركة قد ابتلعت الحركات الإسلامية، بعدما غاصت في ذلك الصراع بمختلف مناوراته، وكان ذلك على حساب دورها الدعوي والتربوي والاجتماعي، حتى اعتبر المنافسون ما تقدمه من خدمات اجتماعية بمثابة رشوة سياسية وشراء أصوات!
المشاركة بين خيارين:
هنا إما أن تعتبر الحركة الإسلامية نفسها طرفاً أمام الآخرين بما يعنيه من فعل ورد فعل في إطار تنافسي بأدوات غالبها خارج أخلاقيات الحركة، أو تختار دور المحضن الوطني الجامع لكل خير ونافع في الأطر العامة فتترفع عن أي منصب. ولو انحازت للخيار الأول فعليها أن تعد الكوادر في كل مجالات الحياة، وأن يكونوا الأصلح لكل منصب، فإذا قدمت مرشحاً فهو أفضل من لديها بحق. وإن كان الخيار الثاني، فيصبح دورهم بث روح فكرتهم في عموم الناس وخيارهم تأهيلاً لهم للقيام بدورهم الوطني في خدمة المجتمع بعمومه، لا الحركة على الخصوص أو تحقيق أهدافها، فهي تدعم الأفضل من أجل صالح الوطن بجميع شرائحه.
لقد حاول الخطاب الإسلامي في مرحلة لاحقة تطوير مفاهيمه المرتبطة بالعملية السياسية خارج إطار الحاكمية وتطبيق الشريعة التي بدأ بها، وذلك انطلاقاً من قيم حقوق الإنسان والعدل والشورى والحريات العامة والتعددية والحق في التعبير ورفض الاحتكار السياسي والاقتصادي. وظني أن هذا الخطاب مقبل على مرحلة أخرى من التطوير يرقى بها فوق مستوى التنافس الحزبي الضيق بتكتيكاته وتبايناته وإكراهاته، وساعتها قد تكون بداية الخروج من تلك الازدواجية المربكة بين المشروع الفكري والإصلاحي العام الذي تحمله تلك الحركات لمجتمعاتها، والعمل السياسي الحزبي الساعي للاستقطاب والمطالب بالتغيير في إطار معطيات الواقع.
الخلاصة أن الحركات الإسلامية أمام ثلاثة خيارات: إما أن تنافس في كل مجال (سياسي - نقابي - خدمي - منظمات المجتمع المدني)، أو ألا تنافس على الإطلاق، أو تحدد مجالات تنافس معينة وبنسب معينة وهو الأعقد والأصعب.