في قرار شكل صدمة مدوية وزلزالا لا يزل صداه يتردد في كامل المنطقة العربية وجوارها الإقليمي المباشر قررت السعودية بقيادة الملك سلمان والإمارات العربية المتحدة قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر. تبعتها في القرار كل من مصر بقيادة الانقلابي عبد الفتاح السيسي والبحرين ثم تتالت المقطعات من موريتانيا ثم الأردن بشكل خجول وصولا إلى المالديف.
الصدمة الأكبر كانت من قرار السعودية باعتبارها "الأخت الكبرى" داخل البيت الخليجي والقوة المعدلة للقرارات الخليجية منذ عقود من الزمان رغم ككل الكوارث والأخطاء التي تسببت فيها منذ حرب الخليج وسقوط العراق. لكن أن يصل الأمر إلى قطع العلاقات وإعلام الحصار البري والجوي والبحري على دولة عربية مسلمة فهذا أمر لم يكن يتوقعه أكثر المراقبين تشاؤما. أسئلة كثيرة لا تزال تؤرق المواطن العربي الذي لم يفق بعد من هول الصدمة بسبب بشاعة الجرم المرتكب في حق العلاقات العربية في شهر له قدسيته وأعرافه ونواميسه. لكن السؤال الذي يتعاود اليوم هو التالي : لماذا قطر ولماذا الآن ؟
المعطيات كثيرة متشعبة لكن يمكن إجمالها فيما يلي :
دعمت قطر منذ وصول الأمير الوالد إلى سدة الحكم تطلعات الشعوب في الحرية والكرامة وفي العدالة الاجتماعية كما دعمت حرية الرأي عبر قناة الجزيرة التي تحولت في فترة وجيزة كابوساً يقض مضاجع الطغاة العرب. هذا الكلام ليس إنشاءً بل حقيقة عايشتها الشعوب الفقيرة عندما وقفت قطر وحدها إلى جانبها وإلى جانب مظاهراتها عندما كان رصاص الطغاة والمستبدين يفتك بالمتظاهرين وليست مظاهرات القصرين وسيدي بوزيد في تونس ببعيدة عنا.
اعترفت قطر بشرعية الثورات العربية ومخرجاتها السلمية خاصة فيما تعلق بالانتخابات التي جرت في مصر وتونس وليبيا إيمانا منها بأن الأرض العربية قادرة على تحقيق النضج السياسي الموصل إلى انتخابات ديمقراطية مهما كان الفائز فيها. وهو ما جعلها تعترف بالحكومات التي نسلت عن الانتخابات في دول الربيع العربي فاعتراف قطر بمحمد مرسي لم يكن في الحقيقة اعترافا بالإخوان المسلمين ولا مساندة لهم بقدر ما كان اعترافا بالانتخابات المصرية وبالعملية السياسية برمتها. الدليل على أن قطر دعمت مصر ولم تدعم فصيلا ضد آخر - مع التأكيد على وقوفها مع الثورات العربية- هو أنها قدمت مساعدات مالية كبيرة للدولة عندما كان المجلس الانتقالي العسكري هو الحاكم في مصر. دعمت قطر كذلك تونس خلال حكم الترويكا كما دعمتها بقوة خلال حكم الباجي قائد السبسي زعيم حزب نداء تونس القريب من نظام بن علي.
رفضت قطر الاعتراف بالانقلابات العسكرية وبمخرجاتها إلى اليوم فأنكرت الانقلاب على الرئيس الشرعي محمد مرسي ورفضت دعم الانقلاب الذي أوغل في دماء المصريين خاصة بعد مجزرتي رابعة والنهضة حيث أُحرق المتظاهرون أحياء في الشوارع. رفضُ الاعتراف بالانقلاب العسكري المصري الذي حظي بدعم سعودي وإماراتي كبيرين هو الذي ألب على الدوحة كل أبواق الثورة المضادة في المنطقة العربية والمسنودة بمال إماراتي هائل ومتدفق كانت مهمته الأولى شيطنة قطر في وعي المواطن العربي.
ثم آوت قطر كل اللاجئين والهاربين من ظلم الانقلابات ومن براثن الأجهزة العربية القاتلة وقدمت لهم منصات للتعبير وإبداء الرأي وهو ما زاد في إذكاء حفيظة النظام القمعي العربي الذي يسعى بكل جهده إلى طي صفحة الثورات العربية باعتبارها حدثا لم يكن.
لكن لماذا الآن ؟
بعد زيارة الرئيس الأمريكي ترامب إلى السعودية كانت الخطة جاهزة لمحاصرة قطر لأن موجة الثورات المضادة قد بلغت اليوم أعلى مستوياتها أو هكذا يعتقد أهلها . فمن أهداف زيارة الرئيس الأمريكي إعلان موت الربيع العربي وإعادة المحاور القديمة إلى طبيعتها من أجل استنزاف ما تبقي من أموال الشعوب العربية المخدرة بمباركة حكامها المكبلين بعجزهم القديم.
فبعد تحييد مصر بالانقلاب على أول رئيس مدني منتخب رجع النظام الاستبدادي العربي إلى سالف نشاطه في قمع كل صوت مخالف للنسق المعهود وفي هذا السياق تتنزل الحملة المشبوهة ضد قطر اليوم.
قطر كانت دائما رقما صعبا في القرارات العربية والإقليمية خاصة بسبب وقوفها إلى جانب القضايا العربية العادلة كحركة المقاومة الفلسطينية حماس التي اشترط ترامب على الحكام العرب تصنيفها تنظيما إرهابيا وهو ما قبل به الجميع ورفضته قطر.
اعتبرت الدوحة حركة حماس حركة مقاومة هدفها تحرير الأرض من العدوان الصهيوني الغاشم ومن سلاسل الاحتلال وهو ما أغضب الراعي الأمريكي وجوقة الحكام العرب.
لكن القطرة التي أفاضت الكأس وكشفت حجم المؤامرة كانت إصرار قطر على مواقفها المبدئية ورفض الوصاية عليها باعتبارها دولة ذات سيادة كاملة على أرضها وعلى قراراتها وهو ما رفضته الدول العربية المنساقة وراء القرار الأمريكي والوصاية الأطلسية.
صمود قطر درس في السيادة ودرس في رفض الابتزاز وقد حظي هذا الصمود بتعاطف غير مسبوق في وسائل التواصل الاجتماعي مع هذه الدولة الصغيرة التي أربكت بجرأتها مواقف الكبار وانحازت بشكل غير مسبوق مع تطلعات الشعوب وآمالها.
لن يفلح حصار قطر فقد ارتد السحر على الساحر وخاب سعي المتآمرين فوعي الشعوب اليوم هو غير وعيها قبل الانفجار التونسي الكبير وهو الوعي الذي ستتكسر فوقه كل الدسائس والمؤامرات.
الوعي السليم هو مدخل إلى الحرية والحرية فطرة في الإنسان وإرادة الإنسان من إرادة الله وإرادة الله لا تخيب أبدا.