يبدو أن فوبيا الجزر تجتاح هذا النظام الفاشل بمصر. فعقب الانقلاب، بدأت الهجمة على عدة قنوات، وعلى رأسها قناة
الجزيرة؛ بإغلاق مكتبها بالقاهرة وشيطنتها واتهامها بترويج الأكاذيب والإرهاب وتسويق مظاهرات الإخوان التي تحاول إسقاط الدولة، في حملة من جانب إعلام النظام تفتقد لكل معايير المهنية، وتكشف بجلاء الغيرة، بل قل الحقد المهني، على قناة ناجحة ولها سمعتها عالميا. بل كل من يهاجمونها في
مصر هم أول من يتابعون الأحداث من خلالها، في انفصام غريب. ورغم كل هذه المحاولات، ظلت الجزيرة من أهم القنوات التي تشاهد بمصر، بل من أكثر القنوات مشاهدة. ولما فشلت الحملة عليها في إبعاد الناس عن متابعتها، تم طلب إيقافها بشكل واضح وصريح عقب أزمة حصار قطر الأخيرة، في واقعة ربما لم تحدث في تاريخ الإعلام، وهو ما قوبل بحملة رفض عالمية تضامنا مع الجزيرة لمهنيتها وحيادها.
وبعد الفشل في ملف الجزيرة القناة؛ تم البحث عن جزيرة أخرى للانتقام من الجزيرة الأولى ومعاقبة الشعب الذي يتابعها، فتفتق ذهن الجنرال المنقلب عن جزيرتين وليست جزيرة واحدة، وهما جزيرتي "
تيران وصنافير"، وتم ذبحهما والتخلص منهما تماما بادعاءات غريبة وعجيبة واكتشاف مريب بأنهما تابعتان للمملكة العربية السعودية. والحقيقة أنه تم التنازل عنهما بالبيع وقبض الثمن من ناحية، ومن ناحية أخرى استجابة لمخطط دولي إقليمي يخدم في النهاية مصلحة الكيان الصهيوني في إطار ما يسمى بصفقة القرن.
تآمر السلطة التنفيذية
ورغم أحكام القضاء والمظاهرات الشعبية، إلا أن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية تآمرت على حكم قضائي بات ونهائي في سابقة غريبة وعجيبة، سواء من حيث اتفاق سلطتين لإقصاء سلطة ثالثة في تجاوز واضح للدستور والفصل بين السلطات أو تنازل السلطة التشريعية عن سلطتها للسلطة التنفيذية وانبطاحها أمامها والاستجابة لأوامرها. والمفروض أن السلطة التشريعية هي من تنوب عن الشعب وتعبر عنه وتستجيب لمطالبه، خاصة بعد مظاهرات الغضب. إلا أن العكس هو الذي حدث، وأقر البرلمان الاتفاقية وبيع الجزر بالمخالفة لدستورهم، وصدّق الجنرال على الاتفاقية في توقيت جرح فيه مشاعر كل المصريين، ومتحديا لهم قبل عيد الفطر بيوم واحد. ورغم كل هذا، فهناك خوف ورعب من انهيار كل ذلك في أي لحظة بسبب الغصب الشعبي المكتوم.
ثم جاء المشهد الثالث في مسرحية الجزر، لنفاجأ بهجوم قوات الأمن على أهالي جزيرة الوراق بحجة التعدي على أملاك الدولة، وهي حجة باطلة لأن الأهالي لديهم عقود تمليك وأحكام قضائية تؤكد حقهم بأرض الجزيرة، ومع ذلك تم الهجوم وسقط القتلى والجرحى. ولكن رغم حجم الاعتداء ووحشيته، إلا أن الأهالي تمسكوا بأرضهم، مبدين بسالة رغم الدماء الكثيرة، وكأن الدماء التي تشهدها مصر يوميا لا تكفي قائد الانقلاب ولا تروي ظمأه ومع إصرار أهالي الجزيرة على البقاء والتشبث بالأرض، فاضطرت السلطة لإصدار أمر للقوات بالانسحاب بعد فشل واضح للسلطة ونجاح لأهل الجزيرة بتشبثهم بأرضهم والتمسك بها رغم العنف الشديد معهم.
عودة الأمل
وأعطى هذا المشهد درسا للجميع وأملا لكل مواطن أن التمسك بالأرض حتما سيحافظ عليها؛ ويمنع منحها للغير دون وجه حق، وهذا إسقاط على ما جرى بشأن جزيرتي تيران وصنافير، وكذلك صارت واقعة ملهمة لباقي الجزر التي تنتظر مصير الوراق، سواء الجزيرة القادمة أو تلك التي حدثت بها نفس الوقائع من قبل وفي انتظار تكرارها مرة أخرى.
وربما تكون هذه الواقعة البسيطة بداية تماسك للقوى الشعبية والمهمشين وعودة الأمل في مواجهة صلف السلطة وغشمها، وإيذانا ببداية لانتفاضة شعبية كبيرة في وجه نظام انقلابي فشل في كل شيء، والشيء الوحيد الذي نجح فيه هو إغراق شوارع مصر بدماء الأبرياء من أبنائها. ولا نعرف ما هي الجزيرة القادمة التي عليها الدور.