زعم محلل إسرائيلي أن الدول العربية تخشى أن تؤدي
انتفاضة فلسطينية إلى إشعال ربيع عربي آخر. "وقال زفي برعي في مقال له في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، ترجمته "
عربي21"، إن "الجديد في المشكلة الحالية هي أن إسرائيل لم تكن الوحيدة التي باتت تخشى انطلاق انتفاضة فلسطينية. بات كثير من الزعماء العرب يشاركون الإسرائيليين الحذر من ذلك".
وفيما نص المقال
في بيان محير نشر يوم الخميس، نسب الديوان الملكي السعودي الفضل في إيجاد "نقطة تحول" أدت إلى إعادة فتح جبل الهيكل أمام المصلين المسلمين إلى محادثات أجراها الملك سلمان مع بعض زعماء العالم.
لم يكشف البيان عن أسماء الزعماء الذين تواصل معهم الملك أو ابنه محمد، إلا أن من المحتمل أن تكون أجريت محادثات مع المسؤولين الإسرائيليين، بشكل مباشر أو من خلال مستشارين مؤتمنين لدى ولي العهد عرفوا بعلاقات لديهم مع القيادة الإسرائيلية.
قد يكون جبل الهيكل، أو الحرم الشريف (كما هو معروف لدى المسلمين) مكانا مقدسا، إلا أن الحل للعاصفة التي هبت واستمرت لمدة أسبوعين سياسية، وكل واحد من آباء الأزمة يناضل من أجل أن يحصل على نصيب من الفضل على حلها.
لقد كان ذلك فيما يبدو صراع قوة على السيادة بين الوقف الإسلامي، الذي تناط به رعاية الشؤون الإسلامية في الموقع، والحكومة الإسرائيلية، صراعا يتركز على الحفاظ على الوضع القائم، شيء ناجم عن قرارات سياسية وليست دينية.
ولذلك يتركز احتواء الأزمة على محورين: منع الأزمة من التحول إلى شأن عالمي، ودعوة الأمم المتحدة إلى التدخل، والحد من انتشارها إلى مدن البلدان العربية والإسلامية. فلو حصل ذلك فإنه كان سيؤدي إلى فقدان الأنظمة العربية السيطرة على تطورات الأزمة وتهديد العلاقات الحساسة بينها وبين الشعوب.
معظم الاحتجاجات، حتى تلك التي تنبع من مشاعر دينية، يمكن أن تتطور سريعا إلى احتجاجات ضد السياسات الداخلية، وضد انعدام حرية التعبير، وضد المصاعب الاقتصادية، وضد انعدام الديمقراطية.
الجديد في المشكلة الحالية هي أن إسرائيل لم تكن الوحيدة التي باتت تخشى انطلاق انتفاضة فلسطينية. بات كثير من الزعماء العرب يشاركون الإسرائيليين الحذر من ذلك، ولعل ما حدث أثناء الربيع العربي في وقت مبكر من هذا العقد خير شاهد على ذلك، فالانتفاضات خطيرة، وهي أشبه ما تكون بالأمراض السارية، ولم تعد الانتفاضة الفلسطينية شأنا داخليا وانعكاسا لنضال وطني ضد الاحتلال الإسرائيلي. بل بإمكانها إطلاق حراك تضامني هائل من شأنه أن يضع الأنظمة العربية في مواجهة مباشرة مع شعوبها.
ولدت حركة الاحتجاج المصرية كفاية في عام 2004، وكان الهدف منها محاربة السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ومعارضة الاحتلال الأمريكي للعراق، والمطالبة بإصلاحات في مصر. إن القدرات الكامنة في انتفاضة جبل الهيكل لحشد الجماهير، وما تشكله من تهديد يفوق ذلك بمراحل وليس فقط لأنها تهم جميع الدول الإسلامية. مثل هذه القدرات الكامنة تحول دون أن تقدم الأنظمة المسلمة على قمع أي مظاهرات تولدها الأزمة، وذلك لما يعلوها من هالة مقدسة تفرض عليهم أن يبدوا كما لو كانوا يدعمون المطالب الشعبية باتخاذ إجراءات ضد أولئك الذين ينتهكون حرمة المكان.
ولكن لا توجد قداسة بلا سياسة، وما يبدو أنه موقع إسلامي عالمي، موقع يفترض في كل مسلم أن يتحمل مسؤولية حمايته بكل ما أوتي من قوة تشيده أيضا النزاعات الداخلية بين الدول العربية والمسلمة. وذلك يذكر بالاختلاف اليهودي حول السيطرة على الحائط الغربي وعلى الصلاة فيه.
ليست الدول المسلمة سيان حينما يتعلق الأمر بحق حماية جبل الهيكل. ففي طرف توجد إيران، الدولة الشيعية المسلمة التي تقدس جبل الهيكل، وتساهم بتصريحات متشددة ضد تحويل إسرائيل له إلى موقع يهودي. ولكن الدول العربية السنية لا ترى أن لدى إيران الحق في أن تتكلم في الموضوع.
ولكن حتى الدول الإسلامية السنية مثل أفغانستان وماليزيا لا تتمتع بوضع مثل وضع مصر أو الأردن، كما أن تركيا وقطر لا تتمتع بوضع مثل وضع المملكة العربية السعودية حينما يتعلق الأمر بجبل الهيكل. ومرجع ذلك ليس لكونهم أقل إسلاميا أو أقل عروبة، وإنما بسبب أن الخلاف سياسي ولا يسمح إلا لأعضاء النادي المعروفين باللعب في هذه الساحة تحديدا.
كما أن للنادي هرمية صارمة؛ فعلى سبيل المثال، منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد للأماكن الإسلامية المقدسة في فلسطين، بحسب قرار لجامعة الدول العربية، إلا أن ياسر عرفات نفسه، الذي لوى ذراع الجامعة ليحصل على التمثيل الحصري، تقاسم المسؤولية مع دول عربية أخرى حينما كان مستقبل جبل الهيكل مطروحا للنقاش.
يسير رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على خطى ياسر عرفات في هذا الشأن، وقد يرفض طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولكن ليس المملكة العربية السعودية.
يتوقف حق الدول العربية في التحدث بشأن القضية الفلسطينية بشكل عام، وحول جبل الهيكل بشكل خاص، أساسا على الموقع الذي تحتله في منطقة الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، بإمكان رئيس تركيا رجب طيب أردوغان أن يلعن إسرائيل كما يحلو له، وأن يدعو مسلمي العالم إلى التوافد على جبل الهيكل؛ ليظهروا انتماءهم الإسلامي، وأن يتهم إسرائيل بأنها تريد الاستيلاء على الأماكن المقدسة، وأن يتعهد بأنه لن يهنأ حتى يعود الأمر إلى ما كان عليه في جبل الهيكل. ولكن من الناحية العملية، وزنه وقدرته على التأثير على السلطة الفلسطينية أو على الزعماء الدينيين في الضفة الغربية، ناهيك عن إسرائيل نفسها، يقترب من الصفر.
علاقات تركيا مع حماس، وانحيازها إلى جانب قطر في الأزمة مع المملكة العربية السعودية، والجفوة مع مصر، وعلاقاتها مع إيران، كل ذلك يترك أردوغان ممسكا بميكروفون في يده ولكن دون أن يكون له أي صوت سياسي حقيقي. لقد زار أردوغان المملكة العربية السعودية هذا الأسبوع؛ ليحافظ على علاقاته بالملك سلمان، ويعرض عليه الوساطة بين المملكة العربية السعودية وقطر، ولكن لم يحالفه الحظ في مسعاه.
رغم أنها عضو في التحالف السني الذي شكله الملك سلمان، إلا أن تركيا بدأت ينظر إليها في المملكة العربية السعودية كدولة غير ودودة. وكان أردوغان مؤخرا صعد من لغته ضد أوروبا، وبشكل خاص ضد ألمانيا، وقالت صحيفة موالية للحكومة هذا الأسبوع إن ألمانيا في عهد أنغيلا ميركل أسوأ من ألمانيا في عهد هتلر من حيث ممارستها للكراهية وللظلم.
كما أن أردوغان مستمر في مواجهة ترامب، رغم أن علاقاته بروسيا آخذة في التقارب عبر صفقة مخطط لها تتضمن شراء صواريخ S-400 الأمر الذي ولد عاصفة في حلف شمال الأطلسي.
تحظى تركيا بوضع استراتيجي مهم، وهو ما يستمتع أردوغان باللعب به، ولكنه في لعبة السكواش هذه بالذات، انتهى به الأمر أمام جدار عربي صلب.
أما مصر، فتتخذ موقفا انفصاليا ينعكس ليس فقط في إبقاء مسافة بينها وبين حادثة جبل الهيكل، ولكن أيضا من خلال جهود الرئيس عبد الفتاح السيسي لفرض حالة من الاستقرار على الحدود مع غزة على حساب السلطة الفلسطينية، ومن خلال دعمه الهائل لمنافس عباس الشرس محمد دحلان، وكذلك من خلال الاتفاقيات التي توصل إليها مسؤولو المخابرات المصرية مع حركة حماس لفتح معبر رفح وإنشاء محطة توليد للطاقة تمولها دولة الإمارات العربية المتحدة. كل هذه الأمور أفقدت الرئيس المصري القدرة على الضغط على عباس أو التأثير عليه. والآن، بات السيسي أكثر اهتماما بعملية المصالحة في ليبيا لحماية الحدود الغربية لمصر من تسرب الإرهاب إليها.
ولا عجب إذن أن يبقى الشارع المصري صامتا أثناء فورة الغضب التي اجتاحت جبل الهيكل، وأن تنشغل وسائل الإعلام المصرية في نقاش غير ذلك من القضايا الملحة.
يقوم السيسي بعقد محادثات تنسيقية وتشاورية بشكل رئيسي مع ملك الأردن عبد الله ومع ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان ومع إسرائيل، وهذا مغاير لما كان عليه الحال أيام الرئيس السابق حسني مبارك، الذي كان في مثل هذه الأحداث يستدعي الأطراف المعنية إلى القاهرة ليملي عليها حلا مصريا (وإن لم يكن دائما موفقا في ذلك).
تلقى ملك الأردن عبد الله الثاني صفعة على وجهه من نتنياهو، الذي احتفل بإطلاق سراح حارس الأمن الإسرائيلي من عمان، بينما تلوى الملك وهو يبحث عن طريقة يشرح فيها ما جرى. ينظر إلى الأردن على أنه برميل البارود الأكثر حساسية فيما يتعلق بجبل الهيكل – وذلك لأسباب منها أن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن تتمتع ليس فقط بوضع قانوني مقارنة بمصر والمملكة العربية السعودية، ولكن لديها أيضا ستة عشر مقعدا من مئة وثلاثين مقعدا في البرلمان. ولكن تمثيلها الرمزي لا يعكس القوة الحقيقية للحركة في الشارع، وهي القوة التي تمظهرت من خلال قدرتها على حشد المتظاهرين وتجييش المشاعر عندما ترتبط الأمور بالعلاقات مع إسرائيل بشكل عام وبالأماكن المقدسة بشكل خاص.
يعترف بالأردن، من خلال الوقف، بوصفه مالكا لمجمع المسجد الأقصى، وينبغي بموجب اتفاقية السلام مع إسرائيل أن يستشار في كل ما يتعلق بالوضع القائم في المكان. وبناء عليه لا تقتصر مسؤوليته على ضمان حرية العبادة في الأقصى. ينظر إلى الأردن على أنه مسؤول أمام العالم الإسلامي، وذلك على الرغم من أن السلطة الفلسطينية حازت على دور الممثل الوحيد للأماكن المقدسة. ولذلك فإن أي حدث غير عادي من شأنه أن يهز وضع الملك داخل مملكته وأمام الدول المسلمة الأخرى.
حتى الآن لم تتضح تماما تفاصيل الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع إسرائيل هذا الأسبوع. أعلن الأردن أنه لم تبرم أي صفقة، وأن إطلاق سراح حارس الأمن زيف، الذي أطلق النار على مواطنين أردنيين وقتلهما، إنما نبع من التزامه بالبروتوكولات الدولية الخاصة بالموظفين الدبلوماسيين. إلا أن مصادر أردنية أخبرت هآرتس بأن "السرعة التي تم بها إطلاق السراح متزامنا مع إزالة البوابات الإلكترونية من على مداخل جبل الهيكل، تشير إلى أن صفقة ما قد أبرمت، وأنها من المحتمل أن تكون اشتملت على التزامات إسرائيلية إضافية لم تنشر تفاصيلها بعد."
إذا ما صدرت عن إسرائيل مثل هذه الالتزامات، فلن تكون بالضرورة متعلقة بجبل الهيكل، وإنما بالتعاون العسكري والاستخباراتي بين الدولتين، أو ربما بتوسط إسرائيلي لدى ترامب لزيادة المساعدات الأمريكية للأردن.
واحد من الأسئلة التي ما زالت تبحث عن جواب هو لماذا لم نشهد اشتعال انتفاضة كاملة على الرغم من توقعات وتنبؤات مسؤولي الدفاع الإسرائيليين على مدى ما يزيد على عامين.
في الظاهر، يبدو أن جميع العوامل التي أدت إلى انطلاق الانتفاضة الثانية في عام 2000 متوفرة في الأحداث الحالية لجبل الهيكل: انتهاك في الموقع المقدس، استيلاء يهودي على ترتيبات الدخول إلى الموقع، غياب عملية السلام، لامبالاة عربية ودولية، وصراع فلسطيني داخلي. إلا أن الفشل المتضمن في الميل نحو قياس ما كأداة لتحليل وتقييم القيادة والسلوك الشعبي يكمن في تمكين نقاط متشابهة وتجاهل أو كتم الفروق.
من الممكن وضع قائمة طويلة من الفروق التي لا حصر لها بين الخلفية والظروف والسلوك السياسي والعسكري الإسرائيلي الفلسطيني في عام 2000 وفي يوليو / تموز من عام 2017. إلا أنه يبدو أن الفرق الأساسي يكمن في أن الانتفاضة الثانية نبعت من نجاح الانتفاضة الأولى، والتي تمخض عنها توقيع اتفاقيات أوسلو.
لقد حفرت في الذاكرة الجمعية للفلسطينيين النتائج المأساوية للانتفاضة الثانية، سواء من الناحية الإنسانية أو من المنظور الاستراتيجي. من الصعب تصور متى تنتهي صلاحية هذه الصدمة. ما زالت الحرب الأهلية اللبنانية تشكل ما يشبه الدرع الفعال ضد إعادة اشتعالها. وربما انطبق ذلك على الحالة الفلسطينية أيضا، حيث ما تزال الصدمة فعالة. ولكن من الأفضل عدم اختبار مدى صحة ذلك.