ظل العنوان الأبرز للأزمة الليبية منذ سقوط النظام عام 2012 متمحوراً حول إعادة بناء شرعية الدولة والسلطة. فعلى الرغم من المحاولات الداخلية والجهود الدولية، عَز على الليبيين التوافق بشكل واسع ونهائي حول من يتولى قيادة بلادهم خلال المرحلة الجديدة، بل ما حصل بشكل لافت انقسام
ليبيا على نفسها بين شرق وغرب، وبين ساحل نفطي وجنوب متمرد، مفتوح على كل الحركات المهددة لأمن واستقرار المجتمع.. وهكذا استمر الليبيون يُكابدون الفوضى المسلحة والاقتتال الدموي من جهة، ويصارعون، من جهة أخرى، شُح الإمكانيات المتاحة، في بلد يُعد من بين أغنى بلدان المعمور.
لذلك، يُمكن اعتبار لقاء "سيل سان كلو" في ضاحية باريس الفرنسية بتاريخ 25 يوليو/ تموز 2017، بين كل من المارشال "
حفتر" و"فايز السراج"، مرحلةً جديدةً في تطور
الأزمة اللليبية. فمن جهة، سعت فرنسا على عهد "ماكرون" إلى رسم موقع جديد لها في سيرورة البحث عن حل للقضية الليبية، وهو طبعا سعي محكوم برهانات وأهداف لا تخفى على الليبيين والمحللين الدوليين بشكل عام.
ومن جهة أخرى، تمكنت الرعاية الفرنسية من إقناع الطرفين بالاتفاق على مجموعة مبادئ (10)، قد تساهم في حلحلة الوضع، وفتح أفق للتوافق السياسي، المُفضي في حال نجاحه إلى مصالحة وطنية. لذلك، ربحت فرنسا في تكريس "شرعية جديدة"، هي طبعا "الشرعية العسكرية" لحفتر، التي ظلت موضوع تجاذب في الداخل والخارج، وبذلك ربح "حفتر" في تكريس موقعه كأحد اللاعبين الأساسيين في الأزمة الليبية ومستقبل تطورها.
لكن، بالمقابل، وهذا هو الجديد في لقاء "سيل سان كلو"، لم يعد "فايز السراج"، الذي كرسته مفاوضات مدينة "الصخيرات" المغربية واتفاق 2015 الناجم عنها، ممثلا وحيدا للشرعية المُعترف بها دوليا، والُمتنازع حولها داخليا، بل أصبح إلى جانبه طرف آخر فرض وجودَه بقوة الواقع، الذي ليس سوى تقدمه العسكري على طريق تحرير الشرق الليبي من التيارات المتطرفة، والتطلع إلى دخول العاصمة طرابلس.. نحن إذن أمام شرعيتين مُعبرتين عن طبيعة الصراع الدائر في ليبيا، متنافرتين حقا، لكن متكاملتين بالضرورة.
ثمة الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى وقت لاكتمال العناصر اللازمة للإجابة عنها، وفي مقدمتها سؤال التعايش بين الشرعيتين، والنجاح في التقدم نحو صياغة حل سياسي للأزمة الليبية.
فالمارشال "خليفة حفتر"، يمثل بقايا النظام القديم، وإن انشق عليه عام 1981 إبان حرب التشاد، وهو بذلك أحد رموز مرحلة يجهد الليبيون من أجل مسحها من ذاكرتهم الجماعية، في حين، يمثل "فايز السراج" أحد أسماء المرحلة الجديدة التي لم يكتمل بناؤها بعد، ودون شك سيكون لهذه المفارقة وقع خاص على تجاوب المجتمع الليبي مع الديناميات الجديدة لحل الأزمة. علاوة على ذلك، يحمل اتفاق المبادئ الموقع بين الرجلين برعاية فرنسية على عناصر ضعف، ونقط قوة، وبياضات لم يقع التطرق إليها، ربما تُركت لما ستؤول إليه الأمور مستقبلا.
من نقط قوة بيان "سيل سان كلو" المشترك اعترافه باتفاق "الصخيرات" الموقع في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015، واعتباره مرجعية للحل. وعليه، وهذه نقط قوة أخرى، الاتفاق على توحيد المؤسسات المركزية، و"إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في ربيع 2018".
أما من عناصر ضعفه، فيمكن الإشارة إلى استمرار "خليفة حفتر" مُصرا على فرض "شرعيته العسكرية"، بحسبها الأسمى، والتي لا تُناظرها "الشرعية السياسية" في المكانة والقوة، والواقع أن تفكيرا من هذه الطبيعة، يُعقد حظوظ التسوية أكثر مما ييسر سُبل إنجازها.. وقد تذهب التخمينات بالكثير من المتابعين للشأن الليبي إلى توقع تقدم "حفتر" إلى الانتخابات الرئاسية في حال انعقادها، وربما الفوز بها.
طبعا اتفق الطرفان بمقتضى بيانهما المشترك على "وقف إطلاق النار، وتفادي اللجوء إلى القوة المسلحة"، والتأكيد على أن "حل الأزمة الليبية لا يمكن أن يكون إلا حلا سياسيا، يمر عبر مصالحة وطنية تجمع بين الليبيين كافة"، إضافة إلى دعوتهما "إدماج المقاتلين الراغبين في الانضمام إلى القوات النظامية، وتسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم في الحياة المدنية".
لابد من التذكير بأن لقاء "سيل سان كلو"، حلقة في سلسلة حلقات بدأت في القاهرة، وتبعتها أبو ظبي، ولا يُعرف على وجه الدقة أين ستنتهي. فهي كلها محاولات تحت رعاية دول إقليمية وقوى دولية، من أجل تقريب وجهات النظر، وإنضاج صيغ حل الأزمة الليبية، والحال أن للأزمة الليبية معطياتها المتشابكة في الواقع الداخلي، وهو ما يعني أن بدون النجاح بشكل جماعي في التغلب على هذا التشابك يصعب التقدم على طريق الحل السياسي التوافقي. تنخر جسم ليبيا اليوم الكثير من العناصر النابذة للحل، أبرزها حجم المليشيات المنتشرة على التراب الوطني، وبدرجة خطيرة طرابلس والحواضر الكبرى، وانقسام البلد بين أكثر من ولاء، شرقا وغربا وجنوبا ووسطا.
والغياب شبه المطلق لـ"الدولة ومؤسساتها" في الجنوب، واستمرار هذا الأخير مرتعا للتيارات المتطرفة، دون نسيان التنافس الدولي والإقليمي على هذا البلد، وسعي كل طرف إلى الفوز بموقع في خريطة بناء مستقبل ليبيا.. تلك هي البياضات التي تحتاج إلى وعي خطورتها، والعمل الحماعي الجدي من أجل تجاوزها.. دون ذلك تظل مساعي البحث عن حلول للأزمة الليبية تدور في حلقة مفرغة.