وضع صن تشو واحدا من أهم الكتب في التاريخ وهو كتاب فن الحرب منذ آلاف السنين، ولا يزال مرجعا رئيسيا لمن يريد فهم الإدارة الاستراتيجية والتكتيكية لأي معركة وليست فقط المعارك الحربية، وذكر أيضا صن تشو كيف تنسحب بأقل الخسائر في التوقيت المناسب وكيف يصبح الانسحاب كارثة أكبر من الهزيمة.
لم يدر بخلد أحد عبر التاريخ – كما أعلم - أن تُجيَّش الموارد وتُحشَد الطاقات ويُستعان بالعدو كي يقنع أحد طرفي الصراع جنوده بلذة الهزيمة ومتعة الاستسلام، ويضعها – وياللعجب – وكأنها انسحاب تكتيكي؛ ويبدو أن البعض يشعر أن شعب مصر الذي تصدى تصديا بطوليا لانقلاب يوليو مجموعة من الحمقى والسفهاء، ليس فقط الشعب؛ بل أجزاء من الكتل الصلبة المؤدلجة بالمجتمع.
واستكمالا للكوميديا السوداء علينا أن نحاول وضع قواعد لمن يريد الخروج من المعركة بعد استعانته بالعدو، وفي نفس الوقت يجعل جنوده يكذبون على أنفسهم ويشعرون بالنصر. وحتى تكون الأمور أكثر وضوحا أرجو من القارئ إسقاطها على الوضع المصري – والقراء يعلمون أنه طبعا مجرد مثال – لنقترب أكثر من المعاني المراد توضيحها.
القاعدة الأولى:
استمر في السيطرة على مركز الأحداث ولا تسمح لأحد يتكلم بصوت معاكس في الظهور، وإن سمحت له فاجعله يظهر على أنه يغرد خارج السرب – هذا أفضل بالتأكيد- حتى تظهر أنك محايدا ولطيفا، وحاصره تماما وارسم صورة ذهنية أنه في الهواء حتى لو كان يملأ الأرض والسماء، وحتى لو تكلم العالم كله ضدك فلا تكترث فأنت بجانب أصحاب الياقات البيضاء والمخضرمين ومن يستطيعون إعلان أنهم يمثلون الشعب. لا أدري عن أي شعب يتحدثون ولكن لا بأس.
القاعدة الثانية:
انشر إحساس الفشل – طبعا دونك أنت - واجعل الجميع يشعر بالدونية والخيبة، وسفه من كل المحاولات بشراسه، وانشر صورة ذهنية عامة أن الجميع فشل وأن الجميع لا يستحقون إلا ذلك، فليس بالإمكان أبدع مما كان، وبالتأكيد هاجم كل من يتحدث بلهجة مختلفة ودائما حاصره في مساحة الدفاع ولا تترك له مساحة للهجوم وإذا حاول فاسحقه بلا رحمة.
القاعدة الثالثة:
اصنع مصطلحات كبيرة ولكنها جوفاء لا يستطيع أحد انتقادها ولا فهمها وعن طريقها اجعل كل شيء سائل فلا فارق بين ثورة وثورة مضادة؛ ولا فارق بين قاتل ومقتول فالكل سواء، فتحدث عن الوطن وأن الدم كله حرام – لا أعلم من أين أتت تلك الجملة التي أعتبرها جريمة – وعن الجماعة الوطنية التي لا نعلم من أين أتت، واسخر من كل من يتحدث عن الثوابت، وبالطبع إجمع حولك كل "السياسيين المحترفين" حتى لو كانوا من العدو ولا تيأس؛ استمر مهما كانت الانتقادات، فمع تطبيق القواعد الأخرى يصبح كل شيء ممكنا، وستجد الكثير ينسى من كان قاتلا ومن كان مقتولا، ومع استمرارك؛ وربما تنجح في أن تحاكم المقتول، هذه ليست نكتة فقد بدأت على استحياء مقولات بضرورة محاكمة د مرسي على ما اقترفه من جرائم في حق الثورة!، وفي نفس الوقت لم نعد نجد غضاصة في أن يخرج أحد على قنوات "الثورة" ليقول بكل فخر "الرئيس السيسي"، ألم أقل لك؛ لا تيأس.
القاعدة الرابعة:
غير شكل المعركة بكل قوتك واستعن بأعدائك في صفوفك حتى يحتار الناس، "تذكر القاعدة الأولى فأنت لا زلت على القمة" عندما يجد الناس القتلة مع المقتولين فإنهم يحتارون وإذا احتاروا فأنت على الطريق الصحيح، تستطيع ببساطة تغيير طبيعة المعركة فبدلا من أن تكون شعب أمام سلطة يصبح رجل أمام "رجل"، وبالتالي يسهل كل شيء، صدقني.
القاعدة الخامسة:
استمتع بالحدث وابتسم دائما، فكلما كان استمتاعك أكبر كلما أقنعت من حولك أنك على الصواب، ولا تتردد وأقنع نفسك أولا أنك على الحق المبين فلا يمكن أن تقنع أحدا إذا كنت أنت غير مقتنع، نحن تجاوزنا القناعة الآن ونبحث عن المتعة.
أذكر أحد المشاهد في رواية لا أتذكرها ربما كانت أوليفر تويست عندما كان زعيم العصابة "فاجين" في حوار مع نفسه وبدأ يفكر في سوء ما يفعله في حياته وكيف أنه حطم كل المعايير والقيم الأخلاقية، إلا أنه بعد ذلك بلحظات رأى نفسه محاصرا بين ماضيه وبين رغباته وأماله، فقرر أن يستمتع بما يفعل، فكلنا قادرون على ضبط موجات ضمائرنا بقليل من "الحوار الذاتى الهادئ العقلاني".
التزامك بتلك القواعد الخمسة وغيرها مما قد يتبادر إلى ذهن النخب العاقلة هو طريق "النصر المؤزر"؛ فقط لا تيأس واستمر، فهو كما ذكرنا توجه جديد لم يقم به أحد سابقا، لذلك نحن ما زلنا في مرحلة بناء تلك الأفكار وتحتاج لإضافات "النخب" التي تمارس هذا العمل الآن كما ينبغي، وأعتقد أنها تمتلك من الخبرات في هذا المجال ما يجعلها قادرة على الإضافة أو حتى الحذف، فبالتأكيد أصحاب الخبرات التنفيذية أكثر قدرة على ذلك.
حاولت أن أوجز طبقا للمساحة المتاحة لمقال، ولكن الألم كبير والصدمات مروعة وحجم التشوه أصبح أكبر من القدرة على الاحتمال أو التصور، لقد حاولنا وسنظل نحاول أن نبتعد عن مرحلة الاستمتاع بالهزيمة، بل والبقاء في مجال إدراك الهزيمة ومحاولة خوض جولة أخرى لنحقق النصر، ودائما ما نقول إن الهزيمة تحدث عندما تعترف بها، أما وإنك ما زلت ترفض أن تستسلم لها فلم تكتمل هزيمتك بعد، فالتعامل مع الهزيمة يبدأ بإدراكها وهذا مهم حتى لا نخدع أنفسنا، ثم بعد ذلك سلسلة السقوط، فتأتي مرحلة الاعتراف بها وهي أهم ما يريده "المنتصر"، ثم تأتي مرحلة الاستسلام للهزيمة وهي قد تكون مقبولة في إحدى مباريات كرة القدم وليس في صراع مصيري، ثم تأتي مرحلة قمة هرم الهزيمة عندما تستمتع بها وتعتبرها نصرا مؤزرا وهذه ليست فقط حالة خلل فكري ولكنها أقرب لمتلازمات نحتاج أن نسميها، ربما نسميها متلازمة "فاجين".
نحن ندرك الهزيمة ونعمل على تجاوزها إلا أن الكثير منا توزَّع على مراحل الهزيمة الأربع، والكارثة أن الكثير من أصحاب الياقات البيضاء سكنوا برج الاستمتاع بالهزيمة وقرروا أن يستضيفوا الجميع فيه بل ويقنعونهم أن هذا من الحكمة البالغة التي يمتلكونها.
هذه النقاط الخمس هي أفكار لكي يتسع برج الاستمتاع بالهزيمة للكثير من الجنود الذين ظنوا أنهم في معركة كبرى لبعض الوقت ولكن تطبيق تلك الأفكار مع نشر الحالة النفسية ل "فاجين" كمرجعية أخلاقية يصبح كل شيء سهلا.
أخيرا إن هذه المحاولات المحمومة لإعادة إحياء نموذج 30 يونيه النخبوي قد تنجح في حالة عدم وصول حالة المقاومة "وليس واقع المقاومة" إلى نقطة حرجة؛ وبالتالي يمكن تفتيتها، أما وأنها تجاوزت تلك النقطة الحرجة فكل هذه المحاولات ستذهب هباءا بطلقة مدفع واحدة أو بيان رقم واحد جديد، ربما تصنع حالة وتجمع الكثير في القصور الفارهة للاستمتاع بالهزيمة ، إلا أنها قصور مبنية على فوهات المدافع ونهايتها ستكون بطلقات العسكر الساخرة التي ستنطلق على شعب مصر مجددا وليس عليهم، فمعركة 30 يونية و3 يوليو هي معركة داخل الثورة المضادة، فليسحقوا بعضهم البعض إن أرادوا، ولكن لا داعي لأن نصنع بأيدينا المبرر للأجيال القادمة كي يلعنونا ليل نهار بعد أن تجمع الحكماء لكي يعيدونا إلى المربع رقم صفر مجددا، وكأنها غايتهم التي لا يملوا منها.