احتدم الجدل حول علاقة
الإخوان المسلمون كجماعة تضرب جذورها الشعبوية عمق المجتمعات الإسلامية والعربية، من باكستان إلى كردستان، ومن مصر إلى أقصى المغرب العربي، بالانظمة التقليدية في هذه الدول.
وبينما اختلف الباحثون حول الصلاحيات الفكرية للأحكام الجاهزة التي جوبهت بها هذه الجماعة منذ نشأتها في عشرينيات القرن الماضي، وصولا إلى الأزمة
الخليجية الراهنة التي تعرف اختصارا بـ"حصار قطر"، يتفق بعضهم على خطل التحليللات السياسية ذات الغرض التي تهدف إلى المباعدة بين هاتين القوتين العظمتين (الإخوان والأنظمة الملكية) في العالمين الإسلامي والعربي.
إذ ذهب المعسكر العدائي للجماعة بعيدا في تحميلها جميع ما يمكن تحمليه من إخفاقات ظاهرة وباطنة، دموية كانت أو سلمية، في محيط شطط الفشل السياسي العربي، لا سيما بعد ظهور بدعة التصنيفات الإرهابية التي ابتدرها الغرب للقضاء على كل ما لا يروق له من تنظيمات جهادية أو غير ذلك. واستخدم في ذلك كل أساليب الشيطنة الممكنة لخلق عالم مواز في الذهنية المحلية؛ بضرورة استئصال هذه الجماعة من الواقع السياسي والحياتي تماما، والقضاء عليها بلا هوادة او رحمة لأنها تمثل أم الشرور والآفات، كما يزعمون.
رأينا ذلك في مصر، وكيف تحول نظام السيسي المدعوم غربيا وخليجيا إلى آلة اجتثاث دموية في شتى ربوع مصر؛ لإزالة هذه العقبة السياسية الكؤود من الوجود.
يذهب معسكر آخر إلى ضرورة وجود مقاربات موضوعية تؤسس لتسوية سياسية شاملة بين الموجودات السياسية في أنظمتنا العربية، وبصورة أساسية بين الأنظمة الملكية في الخليج والإخوان المسلمين.
فهل حقا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين خطرا وجوديا جاثما على صدور الأنظمة التقليدية في
العالم العربي؟ وهل وجود هذه الجماعة وازدهارها وانتشارها طولا وعرضا داخل المجتمعات العربية يمثل فعلا خطرا كامنا يتهدد الأنظمة الحاكمة، لا سيما الملكية منها؟
للإجابة عى هذا السؤال المهم والمحوري ربما من الأسلم العودة بالتاريخ قليلا إلى الوراء؛ سبرا في أغوار النشأة التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين؛ لأن في أسباب النشأة تكمن الأجابات الحقيقة لهذه الاسئلة المرتهنة بواقعنا المتأزم.
فعلى عكس ما يروج له إريك تراجر وزملاؤه من معهد واشنطن، لم تكن دوافع بزوغ ظاهرة الجماعة وولادتها في 1928 بمدينة الإسماعيلية المصرية بقيادة حسن البنا؛ محلية الطابع أو لمواجهة النظام الملكي القائم، بقدر ما كانت نشأتها ردة فعل على سقوط الخلافة العثمانية والتهديدات التي طالت مقدسات المسلمين في فلسطين وزيادة النفوذ اليهودي على التراب المسلم.
فالحركة تستند في الأساس إلى مرجعية إسلامية عالمية وحدوية التوجه وديناميكية تهتم بمواجهة التهديدات التي تواجهها الأمة في محيطها الخارجي، أكثر من كونها حركة نشأت لمعالجة الواقع السياسي المحلي، مع اهتمامها بذلك.
فعلى المستويات المحلية دائما ما تنشط الحركات الإسلامية في الجوانب التهذيبية للمجتمع، أكثر من تحريضها على الحكام؛ لأن أيديولوجيتها المركزية تعتمد في الأساس على إصلاح المجتمعات المحلية للاستعانة بها ضد محور الأعداء الخارجيين لمجموع الأمة، مما يجعلها تستند إلى رصيد وطني وأخلاقي أكثر من الأحزاب الليبرالية التي تستمد مبادئها من القيم الغربية التصادمية مع المكون المحلي، وهذا هو سر كونها الأكثر مقبولية وشعبية على امتداد المجمتعات ذات الأغلبية المسلمة.
انطلاقا من هذا المحور، فإن حتمية التصادم بين جماعة الإخوان المسلمين، بتشكيلاتها المختلفة، والأنظمة الملكية التي تروج لها مراكز دراسات معروفة؛ ما هي إلا إستراتيجيات سرابية الهدف منها المباعدة قدر الإمكان بين نقاط التقاء هاتين القوتين ذواتي الثقل داخل المجتمعات العربية.
فالأنظمة الملكية، وبما تمتلكه من رصيد كبير من الخبرات المتراكمة في إدارة الدولة والإمساك بعجلة البيروقراطيات المؤسسية وضبط المؤسسة العسكرية، تعتبر أكبر وأهم شريك محتمل يجب أن تسعى الحركات الإسلامية والإخوان المسلمون للالتقاء معه، لا تصادميا بل وفاقيا؛ لأن الطرفين يمتلكان الأسباب الجزئية للقوة السياسية داخل المجتمعات العربية، وهي بالنسبة للإخوان المسلمين الشعبية الجارفة على المستوى المجتمعي، وبالنسبة للأنظمة الملكية القدرة الفريدة والمتميزة على الإخضاع.
ومن وجهة نظر براغماتية، كل من الطرفين يفتقد ما يمتلكه الطرف الآخر من مشروعية وجودية ومؤهلة للحكم.
الأنظمة الملكية تستطيع إخضاع العسكر وجيوش البيروقراطيين الجشعة وقطاع كبير من الرأسمالية الوصولية، بينما الإخوان المسلمون يمتلكون تلك القدرة المخيفة على الحشد والإقناع، ويستندون إلى شعبية جارفة من جيوش المحرومين وعامة الشعب الذين تستهويهم وتجذبهم الشعارات التي ترفعها المنظومات الإسلامية، من قبيل العدالة والحرية وسيادة شريعة الله.
إذن، فخارطة الطريق أمام الطرفين في الأصل يجب أن تكون ممهدة بقليل من التنازلات والتسويات والتوافقات.
على الإخوان المسلمون أن يخففوا قليلا، ولو مرحليا، من أحلام التغييرات المجتمعية والسياسية الحادة صعودا على مستوى المجتمع والدولة. إذ تبين أن هذه المهمة جسيمة رغم مشروعيتها، وتحتاج إلى أعوام وربما عقود؛ لتثمر آثارها. فأعداء التغيير كثر. على المستوى المحلي يوجد أصحاب المصالح والنفوذ، أضف إلى ذلك الناقمين على كل ما يمكن أن يمثل تغييرا للوضع الراهن، ووراء كل ذلك يقف جبل جليدي كبير يمثل رغبة التيارات الليبرالية ومن ورائها الذين يبدون استعداد متأهبا ومدعوما؛ لقطع أشواط بعيدة المدى والتباري في أقصى الآفاق لإيقاف المشروعات ذات الصبغة الهوياتية التي يمكن أن يتم استخدامها لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة، بل وقد تقود إلى تغير النظام العالمي الجديد بأثره.
لقد رأينا قبل عام كيف حاولوا إيقاف هذا التيار في أكثر الدول الإسلامية قوة: تركيا. وتبين لنا بوضوح تلك الجهوزية والتربص باستقلالية القرار المسلم.
إذن فالموضوع بالغ التعقيد، ويحتاج إلى الكثير من التنازلات والمناورات من جانب الإخوان المسلمين للوصول إلى نقطة تعادل يمكن استخدامها كمنصة للوصول إلى أهداف الجماعة الاستراتيجية، ولكنها على المستوى المرحلي لن تكون قادرة على تجاوز الأنظمة الملكية، ومن الأفضل والأسلم اعتماد طريق ثالث تشاركي يحفظ استقرار المنطقة ويجنبنا مآلات مشروعات التدمير الذاتي المطبقة بنمذجة عالية حاليا في عدد من الدول العربية والإسلامية.
من الجانب الآخر، على الأنظمة الملكية النظر بتمعن في جدية التحليلات التي توصي بالقطيعة مع الإخوان المسلمين وسائر حركات الإسلام السياسي، بل وترغب في تقطيع أوصالها، إذ أن هذه الحركات تمتلك شرعيات شعبوية تمثل ماردا نائما قد يصل مرحلة الانفجار الكلي في حالة الضغط عليه مرارا وبغير إنصاف.
كذلك يجب على الأنظمة الملكية والتقليدية النظر إلى الإخوان المسلمين وحركات الإسلام السياسي كرصيد اجتماعي وسياسي ضخم؛ يمكنها استغلاله لكسب الشرعية والاستقرار. فلا توجد كواليس أيديولوجية لهذه الجماعات تحض على الخروج على الملكيات واستبدالها. هذا مجرد هراء محض، وترويجات مفضوحة وزائفة لا غير.
الإخوان المسلمون أنفسهم لن يكونوا قادرين على الإمساك بزمام الوضع السياسي بصورة مستقلة دون مساعدة هذه الملكيات العتيدة؛ التي راكمت التجارب والخبرات ولها القدرة الأكيدة في السيطرة على المؤسسة العسكرية التي لن تذعن للإخوان المسلمين أو أي قوى شعبية أخرى في ظل عقيدتها الحالية.. أنموذجا السودان ومصر يدعمان هذا الاتجاه.