لماذا حدثت المذبحة وماذا أحدثتْ بالمجتمع؟

مرت منذ يومين الذكرى الرابعة للمجزرة الأكبر في التاريخ المصري الحديث، وهي المجزرة التي نتج عنها تأميم كامل للحياة السياسية والاجتماعية في مصر، وغابت القوى الإسلامية التي أعادت لملمة صفوفها في سبعينيات القرن الماضي، وتغول الجيش في كل قطاعات الحياة المصرية.

لا تزال عملية البحث في أسباب المجزرة غير مفهومة بشكل كامل، ولا يزال غير مفهوم كذلك عدم مسارعة قادة الاعتصام لإعلان انتهائه حفاظا على ما بقي من أرواح في الاعتصام بعدما بدت شراسة قوات الأمن وتحولها لمجموعة من مصاصي الدماء الذين تلذذوا بعمليات القتل والدهس والحرق، في بيان واضح لنتيجة عملية تغيير عقيدة قطاعات داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية.

هناك أمران شكّلا جزءا من الصورة -على الأقل بالنسبة لي- لمحاولة فهم أسباب شراسة عملية فض الاعتصام، أولهما: ما حكاه أحد الوزراء السابقين أثناء رئاسة الدكتور محمد مرسي لبعض من يعرف، إذ اجتمع هذا الوزير في طائرة الرئاسة مع وزير الدفاع حينها -الفريق السيسي- أثناء رحلة رئاسية لإحدى الدول، ودار نقاش بينهما حول أحوال البلد، فقال له السيسي ما مضمونه: هذه البلد لن ينصلح حالها إلا بمذبحة كمذبحة القلعة.

هذه كانت رؤية الرجل من قبل، أن البلاد تحتاج لمذبحة، وهي رؤية تبدي ضآلة عقل من فكّر بها، إذ لا يمكن في عصر الإعلام المفتوح أن تكون هناك رواية واحدة لأي حدث تمنع الحركة ضده، كما لا يمكن أن تهدأ نار فقْد الأبناء والآباء والزوجات والأصدقاء، وهو ما فعله والي مصر الحالي، كما أبْدَت هذه الرواية الزاوية الدموية في عقل صاحبها، وأنه لا يأبه بمقتل العشرات أو المئات أو حتى الآلاف -هكذا بكل بساطة- كأن القتيل رقم، ليس وراءه أسرة تضيع، وأفراد يموتون كل يوم كمدا على فقيدهم، وكأنه ليس وراء كل قتيل تفسخ اجتماعي ينخر في بنيان دولة يزعم حاكمها أن القتل أو "التضحية بجيل أو جيلين" مفيد لها كما قال هذا الدموي خفيف العقل من قبل.

يستلهم صاحب المذبحة عصرا سحيقا من عصور غياب المعرفة والإعلام، ومن عصور الصراع على السلطة والوصول إليها بسفك الدماء ونهب البيوت ومطاردة الخصوم على الانتماء والأفكار كما فعل محمد علي وقتل مئات المماليك عقب مذبحة وجهائهم، واستمر القتل والنهب لثلاثة أيام، لكن صاحبنا لا يزال مستمرا لمدة أربعة سنوات ولا يبدو أن تعطشه للدماء يقل، أو أنه أدرك حماقة وبداوة فكرته ولم يعد أمامه سوى الاستمرار لينجو برقبته.

الأمر الثاني الذي قد يساهم في تشكيل أجزاء الصورة الناقصة، سمعته ممن لا أعرف اسمه الحقيقي وجمعني به لقاء عن طريق الصدفة، وسألته عن سبب هذه الوحشية فقال: "لو لم يكن الفض بهذه القوة، لانتقلوا للتحرير وأصبحت لدينا عشرات الميادين، فكان لا بد من الإجهاز عليهم تماما في هذا اليوم".

رأى أصحاب القرار -إما بتوقّع أو معلومة- أن "التراخي في الوحشية" سيعني انتقال الاعتصام، في حين أن حشد الشارع كان غير متعاطف مع الاعتصام والمعتصمين على أقل تقدير، والانتفاضة التي جرت عقب الفض كانت لعدالة قضية الدم لا غير، وهذا يمكن رصده بفارق الحشود قبل دماء الحرس الجمهوري وتصاعد الحشود فيما بعد الفض، كما أن قدرة قوات الأمن على فض أي احتشاد بأدوات الفض الاعتيادية كانت ممكنة كما جرى في فض اعتصام العباسية مثلا فيما بعد مذبحته الليلية، لكن عقلية مذبحة القلعة سيطرت على صاحب القرار ولم يعارضه أحد.

رافق هذان الأمران خوف أصحاب الانقلاب من مصير المحاكمة إذا فشل الفض أو تداعى الانقلاب، فتعلّق أمر الفض بالحياة أو ضياع الجاه في أفضل الأحوال لهم، وتضافرت تلك العوامل في رأس أصحاب القرار فجرى ما كان.

السؤال الآخر الغائبة إجابتهأيضا لماذا غاب حصر أعداد الوفيات من جهات الاعتصام، والحصر الذي قامت به مجموعة ويكي ثورة ليس بدقة حصر الوفيات الذي كان يجري بالمستشفى الميداني لرابعة والنهضة، ولا بنفس الإمكانيات البشرية لمجموعات الإسلاميين التي تمكنّهم من استخدام شبكاتهم الاجتماعية للوصول لرقم تقريبي عن أعداد الذين قضوا في تلك الأماكن.

ما أحدثته المذبحة في المجتمع من خرق واسع للُحمته الاجتماعية ليس له مثيل سابق، رغم وجود بذوره التي ألقاها أصحاب القرار في البلد عقب نجاح الثورة في إزاحة مبارك، لكن النبْت الخبيث بدا في رابعة وما بعدها من خلاف بين أبناء الأسرة الواحدة وقطيعتهم لبعضهم، حتى تم توثيق حالتين -على الأقل- لتقديم آباء بلاغات ضد أبنائهم في إحدى أبشع صور الانحدار والتفسخ المجتمعي الذي باركته دولة السيسي الذي يزعم حماية الدولة وأبنائها، الحالة الأولى كانت تقديم إحدى الأمهات بلاغا في ابنها أنه معارض للدولة وينتمي لحركة 6 أبريل، والحالة الثانية تقديم أب بلاغ في ابنيه فكانت النتيجة حضور قوات الأمن وتصفيتها لابنيه أمام عينيه بعد تبادل لإطلاق النار، فأي دولة هذه التي يقوم فيها الآباء بتقديم بلاغات "سياسية" في أبنائهم بما تحمله مشاعر الأبوة من شفقة وحنان للأبناء، وما تحمله قيمة الخلاف السياسي من تفاهة وخسة، إذ الخلاف ليس حول خيانة الوطن كالتجسس لحساب الكيان المحتل مثلا.

نتج عن المذبحة اختلال كبير في موازين القوة بين مؤسسات القوة وبعضها كالجيش والداخلية والمخابرات العامة، واختلال آخر بين موازين القوة المجتمعية ومؤسسات القوة في الدولة، فغابت المؤسسات الاجتماعية والأهلية واستحوذت مؤسسات القوة، وغابت باقي المؤسسات أمام مؤسسة واحدة تصدرت المشهد واستحوذت على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأهلي والتعليمي والطبي والإعلامي وحتى الترفيهي كالحفلات الغنائية والراقصة، ولم تترك مكانا إلا وأدخلته تحت سيطرتها أو تربحت منه ماديا، فحدثت الفُرقة بين قطاعات واسعة في المجتمع وبين حُماته، وهذه الفرقة ليست على أساس سياسي فقط، بل تعدتها لأساس المصلحة والتدافع الاقتصادي مع البسطاء من قوة كبرى ماليا وإداريا.

مذبحتا رابعة والنهضة وما جرى بعدهما أحدثوا جراحا ونكؤوا أخرى وكشفوا وجوها مزيفة، وتسببوا في تحللات اجتماعية وسياسية وانهيارات اقتصادية لن تتعافى الدولة من أي منهم إلا بعد زوال السبب وإجراء مكاشفة ومصالحة مجتمعية وسياسية وعودة كل طرف لدوره المحدود والمرسوم له بصورة طبيعية وجعل جهة الاحتكام الشارع وبوسيلة منضبطة هي الصندوق.

رحم الله الشهداء وربط على قلوب ذويهم وأزاح غمة مصر والشام واليمن والعراق وفلسطين، وعجّل بزوال الظالمين والمستبدين.