لقد أثار الحادث الذي وقع في إحدى ساحات المسجد الأقصى، ونتج عنه مقتل اثنين وإصابة فرد من الجنود
الإسرائيليين واستشهاد ثلاثة من الشباب الفلسطيني من أم الفحم، حفيظة قوات الاحتلال وكان لهم فرصة، وبالتالي قامت بإغلاق المسجد الأقصى، وهي المرة الأولى منذ عام 1969، حين قام أحد السياح الأستراليين بإحراق الجانب الشرقي للمسجد الأقصى، وتم تدمير العديد من الآثار التاريخية فيه، ومن معالم المسجد، مثل مسجد عمر ومحراب زكريا ومنبر صلاح الدين، وأثار أخرى عديدة، بل وتم التعديل في شكل المسجد وهيئته. ومما قيل وقتها أن الاحتلال الصهيوني تأخر في إرسال سيارات إطفاء الحريق، بل ذكر بعض السكان الذين قاموا بأنفسهم في المساهمة بعملية الإطفاء بأن السيارات التي جاءت من البلديات العربية في الخليل ورام الله وصلت قبل التي جاءت من بلدية
القدس نفسها، حتى يستمر الحريق فترة أطول ويتم تدمير أكبر مساحة ممكنة من المسجد ومعالمه.
وعندما وقعت الحادثة الأخيرة، قامت السلطات اليهودية بإغلاق المسجد ولم تتم صلاة الجمعة والصلوات الخمس بالمسجد لمدة يومين، وقامت بمنع المصلين واضطر الفلسطينيون إلى الصلاة في باحات المسجد والشوارع المحيطة به. ثم قامت بتركيب أبواب إلكترونية وكاميرات ذكية في محيط المسجد وحول ساحاته وأبوابه المختلفة لتفتيش المصلين ومراقبتهم. رفض الفلسطينيون المرور خلال البوابات الإلكترونية، وامتنعوا عن دخول المسجد عن طريق الحواجز التي وضعتها سلطات الاحتلال، وقامت المظاهرات في مدينة القدس وما حولها.
بعد هذا الحادث بأيام معدوده قام رجل أمن في السفارة الإسرائيلية بقتل اثنين من المواطنين الأردنيين في عمان، وفي اليوم التالي قام رئيس الوزراء نتنياهو بالاتصال برجل الأمن القاتل ووعده بإعادته إلى إسرائيل دون أي تحقيق أو مساءلة. ولم تمض عدة ساعات، حتى تم الإعلان عن عودة بعض أعضاء السفارة الإسرائيلية ومن ضمنهم رجل الأمن القاتل. وإذا نظرنا إلى الحادثتين وكيف كان رد الفعل سواء الشعبي أو الرسمي تجاههما، ومقارنة ذلك بما حدث تجاه أحداث مشابهة في الماضي أو عند حادثة حرق المسجد، أو عند حادثة محاولة قتل الأخ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس عام 96 في الأردن. فعند حرق المسجد عام 69 كانت ردة الفعل الرسمية والشعبية قوية، وتم تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، وقامت المظاهرات في جميع البلاد الإسلامية من أندونيسيا وماليزيا شرقا إلى المغرب والجزائر غربا، واستمرت المظاهرات لأسابيع عديدة. وعند محاولة الاغتيال فرض العاهل الأردني وقتها؛ على السلطات الإسرائيلية بعلاج أبو الوليد والإفراج عن الشيخ أحمد ياسين. بالتأكيد فإن نتيجة المقارنة ستكون لصالح أحداث عام 69 ومحاولة اغتيال خالد مشعل، وذلك لأسباب عديدة أهمها الوضع العربي والإسلامي المزري والمشتت الذي تعيشه الأمة الآن، بالإضافة إلى حالة التقزم التي يحياها أغلب الرؤساء والملوك والأمراء العرب والمسلمين إن لم يكن كلهم، كما أن غياب قيادة شعبية واضحة المعالم قد ساعد على ردة الفعل الباهتة تجاه الحدث.
قامت سلطات الاحتلال بإزالة البوابات الالكترونية وفتحت المسجد الأقصى للمسلمين للصلاة، وقيل إن السبب وراء ذلك ضغوط بعض الجهات الأمنية الإسرائيلية على نتنياهو، كما قيل إن السبب هو صفقه أردنية مقابل الموافقة على سفر رجل الأمن الإسرائيلي الذي قام بقتل اثنين من المواطنين الأردنيين دون محاكمة، وقيل تدخل العاهل السعودي أو السيسي أو عباس لدى أمريكا لتخفيف الاحتقان في المدينة المقدسة. مهما كان السبب الحقيقي وراء إزالة البوابات، فالسؤال المطروح هل انتهى المشهد من الحلقة الحالية في مسلسل الصراع مع العدو الصهيوني؟ البعض يهلل بأن الصهاينة تراجعوا أمام المظاهرات والضغوط الشعبية والرسمية مهما كان مصدرها. وأعتقد أن هذا الفرح في غير محله لأننا لا ندري ماذا قامت إسرائيل بعمله في المسجد الأقصى وحوائطه وأعمدته خلال اليومين اللذين أغلق فيهما المسجد تماما بعد العملية الاستشهادية مباشرة، وهل كان هذا الإغلاق كافيا لتحقق السلطات المحتلة ما كانت تريده؟ وهذا ما سوف نراه خلال السنوات القليلة القادمة والله أعلم. وهل حققت دولة الاحتلال ما كانت تستهدفه حقا من الإغلاق؟ وقد نشاهد خلال تلك السنوات القادمة انهيارات في مباني المسجد أو أعمدته بحيث يحقق لليهود ما يصبون إليه من ادعاءات بأن هيكل سليمان يقع أسفل المسجد الأقصى ولن يعود الهيكل والمجد لليهود إلا بإزالة المسجد، وهو الحلم الذي يعيش كل يهود العالم لتحقيقه منذ مئات وآلاف السنين.
أما بالنسبة لجانب الضغوط فلا أتصور أن العدو الصهيوني يلقي بالا لردة الفعل الشعبي العربي والإسلامي التي حدثت؛ لأنها كما ذكرت كانت ضعيفة نسبيا مقارنة مع ردود الفعل التي حدثت في الأحداث السابقة وفي المرة السابقة للإغلاق أو كانت تحدث مع الانتهاكات الصهيونية والتصرفات العدوانية للاحتلال تجاه الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، ناهيك عن الضغوط الرسمية، مثل الصفقة مع الأردن من أجل خروج آمن لحارس الأمن بالسفارة دون تحقيقات، أو كما تسرب وقيل أن هناك ضغوطا من أنظمة عربية من خلال الولايات المتحدة على الكيان الصهيوني من أجل إزالة البوابات، كما ذُكرت في هذا المجال مصر السيسي والعربية
السعودية والسلطة الفلسطينية ودول أخرى.
نظرة على المشهد الكامل للحدث يؤكد أننا ما نزال نعيش في حلقة صفقة القرن التي أشار إليها العديد من المسؤولين العرب وغير العرب عن الاتجاه السائد في المنطقة بإنهاء القضية الفلسطينية واستغلال غياب الشعوب وانشغالها بقضاياها الداخلية سواء في مصر أو سوريا، وهما الطرفان الأساسيان في أي صراع في منطقة الشرق الأوسط منذ هولاكو وجنكيز خان وريتشارد قلب الأسد وغيرهم، ناهيك عن باقي الدول وشعوب المنطقة شرقها وغربها شمالها وجنوبها. فالكل منشغل، وما حدث بعد أحداث ما أطلق عليه بالربيع العربي أفقد ثقة الشعوب في أي محاولات تحقيق النجاح أو النصر في الصراعات المحيطة بهم، على الأقل في المدى المنظور. وهذا قد يدفع البعض إلى تصور أن صفقة القرن هذه سوف تؤدي إلى حل القضية الفلسطينية، سواء بحل الدولتين أو نقل الفلسطينيين إلى سيناء أو غير ذلك من بدائل من اجل حل القضية، وأعتقد أن هذا غير صحيح بالمرة لأن اليهود الصهاينة لا يريدون حلا. وهذا يدفعنا للتساؤل: هل فعلا تريد الدولة المحتلة حل القضية أم تريد أن يظل الصراع قائما ولكن بشروطها وسيطرتها وبإخضاع العرب والمسلمين وإذلالهم بشكل كامل للصهاينة بما يحقق أهداف الدولة العنصرية في إسرائيل؟
وهذا يذكرني بما ذكره لي أحد الأخوة الفلسطينيين من قطاع غزة بعد حرب عام 67، والتي نتجت عنها سيطرة الدولة العبرية على القطاع وكامل الضفة الغربية والقدس بشقيها الشرقي والغربي، فقد كان الصهاينة يهتفون "محمد مات خلف بنات"، وهم بالطبع يقصدون - قاتلهم الله - رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وأن ذريته كانت من البنات فقط وأنهم حققوا الفوز في معركة الأيام الستة، كما وصفوها، بسهولة ويسر وانسحاب وجبن الجيوش العربية. كما ذُكر أن أبا إبان، وكان وزيرا للخارجية وقتها، خطب في الشعب الفلسطيني من أهل القطاع بأنهم - أي اليهود المحتلين - يعلمون بأن حرب حزيران/ يونيو لن تكون الحرب الأخيرة، وبأن الصراع مستمر، كما أنهم يعلمون بالحديث النبوي عن قتال المسلمين لليهود في آخر الزمان وأنهم في انتظار هذه المعركة وأن هذه المعركة مذكورة عندهم، وقال إنهم يعلمون أن النصر سيكون حليفا للمسلمين وأن شجر الغرقد هو الوحيد من أنواع الشجر والحجر الذي لن ينطق، ولكنه قال إن اليهودي عندما يقتل في هذه المعركة سوف يدخل الجنة والمسلم سوف يدخل النار. فالقضية بالنسبة لليهود هي قضية عقيدة وليست قضية وطنية أو وطن وأرض. فالصهاينة يعلمون أن القضية هي قضية عقيدة. ومما يحير ولا أجد له تفسيرا؛ هو من يتحول عن فهمه بكونها قضية عقيدة إلى أن يتعامل معها على أنها قضية وطنية أو أرض يمكن اقتسامها!!
إذن فالصهاينة لا يريدون حل القضية ولكنهم يريدون الإذعان والخضوع من العرب والمسلمين، وهذا نتذكره ورأيناه من التاريخ القريب، وبالتالي الصفقة الكبرى ليست لحل القضية كما يتخيل الكثيرون وعلى رأسهم الخونه (الحكام سابقا) العرب، ولكنها حلقة جديدة من حلقات التنازلات للعدو. والحلقة الجديدة أتصور أنها ستكون تكرار لحلقة سابقة حدثت منذ أربعين عام تماما عندما قام السادات بزيارة القدس في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1977، وكانت بداية لنوع جديد من الإذعان للصهاينة وأحدثت الزيارة شقا كبيرا في الصف العربي والإسلامي وساهمت في نقل الصراع لمرحلة جديدة، وهي فتح بوابة العرب إلى تل أبيب وإسرائيل. وقام بدور البطولة في تلك الحلقة أنور السادات وتم رسم السيناريو بشكل متقن وكأنها كانت زلة لسان من السادات عندما قال إنه على استعداد أن يذهب إلى آخر العالم من أجل الحفاظ على حياة أبنائه المصريين وأنه قد حان الوقت لحل القضية الفلسطينية، ولو كان آخر العالم هذا هو القدس والكنيست الإسرائيلي حتى أن الوزراء من حكومة السادات لم يصدقوا الكلمات واعتبروها مبالغة منه. ولكن أجابه مناحيم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، في نفس الأسبوع؛ بتوجيه الدعوة للسادات لزيارة إسرائيل ومخاطبة أعضاء الكنيست مباشرة في تل أبيب. واتضح بعد ذلك الترتيبات التي تمت قبل كلمة السادات في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 77، وأن لقاءات تمت بين حسن التهامي وموشى ديان بالمغرب بحضور العاهل المغربي الحسن الثاني في أيلول/ سبتمبر 77.
وحلقة صفقة القرن التي نعيشها الآن بدأت بمشاهد الانقلاب في مصر وتطور الأزمة في سوريا والصراع على الشرعية في اليمن وعودة النظام القديم في تونس وأحداث ليبيا والتدخل الدولي وزيارة ترامب للمنطقة ومهزلة الخليج بين الأخوة الأعداء، بالإضافة إلى التشتت الذي تعيشه الحركة الإسلامية الكبرى وما تعانيه من خلافات داخلية، وأخيرا أحداث القدس. ونحن الآن في انتظار المشهد الرئيسي في الحلقة الجارية والتي من المتوقع أن يتم من خلالها فتح أبواب مكة والبلاد الإسلامية لليهود والصهاينة، ولكن من سيقوم بدور البطولة لهذه الحلقة؟ من المتوقع أن يبحث المخرج عن شخصية البطل الذي يمكن أن يؤدى الدور بنجاح. ويذكر أن هناك محاولة تمت منذ عشر سنوات 2007 من خلال الشيخ حمد، أمير قطر السابق، من خلال صفقة انقلابه على والده؛ بدعوة شيمون بيريز إلى الدوحة لتعزيز التطبيع الذي بدأه السادات، ولكن فشل المشهد لضعف البطل وإمكانياته، وبالتالي بدأ الترتيب لإعادة المشهد ثاني مرة مع بطل آخر. ومن المنتظر أن يكون البطل للمشهد المعاد خليجي أيضا وأن يكون رمزا للمسلمين، وخصوصا السنة، وهم الأغلبية بين المسلمين حتى يكون التأثير شديدا والزلزلة بين المسلمين أكبر، وبالتالي يحقق الصهاينة نصرا يكون صفقة هذا القرن كما يأملون، ومن الأفضل أن يكون البطل يريد أن يعتزل فيكون المشهد نهاية حياته السياسية. وإذا بحثنا في المنطقة عمن ينطبق عليه المواصفات، فلا نجد إلا العاهل سلمان بن عبد العزيز، وخصوصا أن ابنه محمد يتطلع إلى حكم السعودية اليوم قبل الغد. فليس من المستبعد أن نسمع أو نشاهد قريبا عن رغبة من العاهل السعودي للصلاة في المسجد الأقصى أو أمنيته في أن يعمل خيرا قبل تركه للسلطه للشباب، وقد يدعو نتنياهو لزيارة رسمية لوضع حد لمشاكل الفلسطينيين أو غير ذلك من سيناريو وحوار للمشهد المعد سلفا، وقد يكون يتم الإعداد له والاتفاق عليه وعمل بروفات له في المغرب الآن أيضا، حيث يقضي إجازته الصيفية. فهل يفعلها... سلمان؟
كلمة أخيرة: من يشاهد أو يلقي نظرة على عالمنا العربي والإسلامي في اللحظة الراهنة يجد التشتت والفرقة منتشرة ومتغلغلة بين أبناء البلد الواحد، وأتصور أن هذا الخط البياني سيستمر لفترة ليست قصيرة. ففي مصر يختلف أبناء المعسكر الواحد على التمسك بشرعية الأخ مرسي أو تجاوزها، وفي سوريا يختلف الشعب السوري على التعامل مع نظام بشار وهل له دور خلال الحل الحلم، بل ويطالب البعض منهم بالتقسيم كما يحدث في العراق والموقف من استفتاء الأكراد على الاستقلال. وفي اليمن انقسم أصحاب الشرعية وأعلن البعض استقلال الجنوب، بل وبدأت بعض دول تحالف عاصفة الحزم المهترئ في التفاوض مع الحوثي وصالح والكوليرا تنهش في جسد اليمنيين. وفي ليبيا يتلاعب العميل حفتر مع الغرب بالشعب الليبي وحكومة الوفاق. وفي المغرب تتصاعد الأحداث بشأن ما يسمى بحراك الريف والخلاف بين أبناء الحزب الواحد تجاه التعامل مع الأحداث، ناهيك عن الصراعات بين المسلمين في نيجيريا جنوبا وما يعانيه مسلمو الروهنجا في ميانمار ومسلمو الصين شرقا، وانتشار ما يطلق عليه بالإرهاب الإسلامي لفرض نوع من أنواع الوصاية على المسلمين وتقسيم المقسم. وهذا والله أعلم موضوع الحلقة القادمة. هذا والجهة الوحيدة التي ما تزال تقبع في قلب هذه الأمة والمؤهلة للقيام بدور يساهم في انتشالها مما هي فيه من ضياع وتشتت وينتظرها أبناء الأمة الإسلامية؛ تعاني هي أيضا من الأمراض التي أصابت أمتها. والله المستعان وهو من وراء القصد ويهدى السبيل.