يقول تقرير مجلة "فوربس" الأمريكية المنشور في الأول من أيلول/ سبتمبر الجاري، (إن على واشنطن أن تمتنع عن الاستثمار في نظام "سيسي"، وأن تتخلص من الفرعون
المصري الجديد، فهو يحول البلاد إلى سجن في الهواء الطلق)!
يتحدث التقرير عن حجب جزء من المعونة الأمريكية، وعن تدهور أوضاع حقوق الإنسان، وعن الانهيار الاقتصادي، وكيف أن نظام "سيسي" قد صمد بفضل الداعمين الإقليميين.. وغير ذلك مما كتب عشرات المرات في الصحفة الأمريكية والعالمية.
* * *
البعض يتفاءل بمثل هذه التقارير، ويبالغ في حجم التأثير الخارجي على منظومة الحكم في مصر، والحقيقة أن التدخل الخارجي لتغيير النظام في بلد مثل مصر ليس قرارا سهلا، وهو ليس قرارا في صالح المصريين.
لا أبالغ إن قلت إن الضغط الخارجي على النظام المصري دائما ما يكون محدود الأثر في خلق تغيير حقيقي على الأرض، والنظام المصري ماهر أشد المهارة في التملص من سائر الضغوط الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
يساعده في الأمر أن الأنظمة التي تضغط من أجل الحريات والديمقراطية ليست صادقة في رغبتها في تحقيق تقدم حقيقي في هذه المجالات، لذلك يمكن شراء سكوت أمريكا بأي مكسب في أي مجال من المجالات، والحكومات المصرية ماهرة في ذلك.. فليس لديها ما تخسره، إنهم على استعداد لبيع أي شيء.
الطاغية المصري -بغض النظر عن اسمه ووصفه وزمانه- لن يكبحه إلا إرادة المصريين.
* * *
التدخل الأجنبي المباشر يمنح الطغاة شرعية مقاومة الأجنبي، هذا ما حدث مع مجرم سفاح من أكبر مجرمي التاريخ "
صدام حسين"، فحين أعدم على مقصلة أمريكية اعتبره البعض بطلا وطنيا، وما زال البعض ينظرون إلى هذا المجرم على أنه رمز مقاومة للإمبريالية، وهو في الحقيقة مسؤول عن مقتل ملايين المظلومين.
بعض الإحصائيات تصل بالرقم إلى 14 مليون إنسان (منهم مليونا طفل عراقي)، ولم يخدم أحد الإمبريالية العالمية في المنطقة كما خدمها هذا الرجل باستبداده ودمويته، وقراراته الهوجاء التي أدت إلى تدمير
العراق، وتغيير منظومة القوى الإقليمية في المنطقة.
* * *
إن السبب المباشر لمنع جزء من المعونة الأمريكية عن نظام "سيسي" هو قانون الجمعيات الأهلية الذي صدر مؤخرا!
فقد زار السيد "سيسي" واشنطن في الوقت الذي كانت وسائل الإعلام الأمريكية تتحدث عن مشروع القانون الذي لم يصدر بعد، وكيف أن الدكتاتور الذي يحصل على معونة أمريكية ينوي التوقيع على القانون فور عودته للقاهرة.
التقى "سيسي" العديد من المسؤولين وأعضاء مجلس الشيوخ خلال زيارته، وجميعهم بلا استثناء تحدثوا معه عن هذا القانون، وكيف أنهم مستاؤون من نيته إصداره.
الغريب أنه أكد لهم أن القانون لن يصدر. وفور أن عاد وقعه، ثم تحجج بأنه قرار البرلمان، وكأن الأمريكان لا يعلمون حقيقة "برلمان" مصر!
* * *
قانون الجمعيات الأهلية (سحابة صيف) بين نظام "سيسي" والولايات المتحدة، ومن يراهن على تدهور العلاقات الأمريكية المصرية يراهن على سراب، أو على الأقل يراهن على أمر لن يحدث قريبا.
فالاستثمار الأمريكي في الجيش المصري وقياداته من المستحيل أن يتغير إلا في حالة حدوث ثورة شاملة، تؤدي إلى تغيير كامل في قيادات الجيش المصري.
إنه استثمار قديم راسخ، ليس مجرد صفقات تسليح، أو تدريب، نحن نتحدث عن شكل فريد من أشكال التحكم شبه الكامل، والاندماج شبه التام، وهو أمر ينعكس على جميع القرارات المصرية، من التعليم والصحة، إلى الثقافة والعمران.
وهذه المكاسب المشتركة (بين النظام الأمريكي وقيادات الجيش المصري) أمر لا يمكن تغييره بسهولة.
* * *
هل التغيير في مصر مستحيل إذن؟
بالعكس.. إن التغيير السياسي في مصر ممكن، ونحن في فترة تاريخية سائلة، وتعدّ فرصة سانحة للحركة الوطنية، ولكن للتغيير شروط، وأهم هذه الشروط أنه تغيير سلمي ... و"وطني".
هل يمكن أن يحدث تغيير غير سلمي؟
في رأيي مستحيل.. وإذا حدث، فلن يعطينا هذا التغيير دولة حرة ديمقراطية.. بل سيعطينا شكلا آخر من أشكال الاستبداد، ومن يصل إلى السلطة بالسلاح.. سيحكم بالسلاح قولا واحدا.
وهل يمكن أن يحدث تغيير غير وطني؟
ممكن.. كما حدث في العراق.. وهذا أيضا ليس في صالح مصر..
ونحن دعاة التحرير نتحدث عن استمرار ثورة يناير، التي ستؤدي إلى تغيير بالشعب المصري، في صالح الشعب المصري، ويحافظ على الدولة المصرية، والأرض والثروات المصرية، بما يعود بالخير والأمان والرخاء والاستقرار على مصر والمنطقة.
* * *
خلاصة القول، إن المتغيرات الدولية يمكن أن تخدم قضية التغيير في مصر، ويمكن لدعاة التغيير إذا توحدوا في كيان كبير أن يقيموا علاقات ندية مع كثير من القوى الدولية، فهم بتفرقهم لا وزن لهم، وباتحادهم يصبحون مشروعا يفرض نفسه على الساحة الدولية.
لا بديل عن كيان يجمع المصريين الرافضين للاستبداد العسكري في الداخل والخارج، ولا بديل عن تغيير سياسي سلمي "وطني".
وإذا وُجد هذا الكيان.. حينها قد تفكر بعض القوى الدولية أن تفكر في تقليل (الاستثمار في "سيسي")!
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين..
عبدالرحمن يوسف
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني: arahman@arahman.net