لقد كان
الأزهر، على مر تاريخه، الحارس الأمين على الإسلام وشريعته، وعلى العربية وعلومها وآدابها، والمرابط على ثغور دار الإسلام، يصد الغزو العسكري والغزو والفكري لهذه الديار.
وعندما وفدت "
العلمانية" الداعية إلى فصل الدين عن الدولة والسياسة والقانون إلى بلاد الشرق، في ركاب الغزوة الإمبريالية الغربية الحديثة، تصدى لها كبار علماء الأزهر، معتبرين إياها نقضا لاكتمال قواعد الإسلام.
وفي هذا المقام، قال الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (1335 - 1416 هـ، 1917 - 1996م) شيخ الأزهر: "إن العلمانية مذهب غربي، يدعو إلى التخلص من الدين، وعزله عن حركة المجتمع وشؤون العمران، يعزل الدين عن الدنيا، وذلك باستثناء خصوصيات العقائد والشعائر العبادية، وهو مذهب مادي وفكر خاطئ".
ولقد ظهرت العلمانية ثمرة غربية لملابسات غربية، ذلك أن النصرانية تقول إنها رسالة روحية، تحصر همها في خلاص الروح وفي مملكة السماء، ولذلك كان تطلع كنيستها إلى شؤون الدولة والعمران الدنيوي تجاوزا لمبدئها الداعي إلى أن تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فإذا جاءت العلمانية لترد النصرانية إلى داخل الكنيسة، ولتحصرها في إطار علاقة الفرد بالخالق، جاز لها ذلك، بل وكان موقفها تصحيحا للخطأ الذي تجاوزت به الكنيسة الغربية حدود نصرانيتها.
وليس هكذا الحال مع الإسلام، الذي هو منهاج شامل للدين والدنيا، للعقيدة والشريعة والحضارة والأخلاق، للحياة الدنيا وللآخرة التي هي خير وأبقى، فالإسلام يصبغ العمران بالصبغة الإلهية، ويضبط الخلافة الإنسانية بالشريعة الإسلامية، فالدعوة إلى إبعاد الإسلام - بالعلمانية - عن سياسة الدولة وشؤون العمران، هو قطع لإحدى ساقيه، وتعطيل لإحدى رئتيه، وكفران ببعض آيات كتابه، ينتقص من كمال واكتمال الإيمان بهذا الإسلام، ولذلك يبدو شذوذ الدعوة إلى العلمانية في الواقع الإسلامي باعتبارها دعوة إلى "حل" ليست له "مشكلة" في عالم الإسلام.
هكذا كتب شيخ الأزهر الذي اشتغل أيضا بالقضاء والإفتاء، والذي أعاد إلى الأزهر كثيرا من استقلاله، والذي تحلى بالصلابه في الحق، وبعفة اللسان وبالزهد في حطام هذه الدنيا.
أما الشيخ محمد البهي (1323 - 1402 هـ، 1905 - 1982م) الذي تخرج في الأزهر وحصل على الدكتوراه من ألمانيا، تولى وزارة
الأوقاف ورئاسة جامعة الأزهر وتبوأ مكانة مرموقة في عالم الفكر والتأليف، فقد قال عن العلمانية: "إنها نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض كل صورة من صور الإيمان الديني والعبادة الدينية، وليس للعلمانية مكان في وجود الإسلام، فإما أن يوجد الإسلام ولا علمانية، أو العلمانية ولا إسلام.. إنها حل لوهم، وليست حلا لحقيقة قائمة فعلا، والحكومة في الإسلام ليست إلهية، بل هي بشرية، تخضع للنقد وتقبل الشورى والمطالبة بها، إنها حكومة إنسانية تخضع للخطأ والصواب.
وإذا كانت العلمانية في الغرب قد فصلت بين سلطتين - الزمنية والدينية - فإن الإسلام ليس فيه سلطتان، ولذلك كان تطبيق العلمانية - التي فرضها الاستعمار على بلاد الإسلام - فصلا بين الإسلام وبين الدولة، وإبعادا للإسلام عن الحكم وشؤونه، وتدريجيا - في ظل الاستعمار الغربي لبلاد الإسلام - أخذ يخف الرجوع إلى التراث الإسلامي، والمصادر الإسلامية، ويتجه الاعتماد على ما للغرب من ثقافة وتشريع وتخطيط في البحث والتعليم، وبذلك يضعف استقلال المجتمعات الإسلامية، بينما تشتد تبعيتها لصحاب القوة في التوجه وصحاب المصلحة في إضعاف استقلال المجتمعات الإسلامية".
هكذا رفض كبار علماء الأزهر العلمانية الغربية التي رأوها آلية لإلحاق عالم الإسلام بالمركزية الحضارية الغربية، على حين تمثل الشريعة الإسلامية معلما من أكبر معالم الاستقلال الحضاري لعالم الإسلام.