يحتفل العالم في 28 أيلول/ سبتمبر من كل عام باليوم العالمي للحق في الوصول للمعلومة، وقد جاء تدشينه على خلفية مبادرة وجهود تشابكية لمجموعة كبيرة ونوعية من منظمات العمل المدني التي اجتمعت في بلغاريا في العام 2003، وشكلت فيما بينها الشبكة العالمية للمدافعين عن حرية المعلومات، وأصدرت وثيقتها التأسيسية التي تتناول كل ما يخص الحق في الحصول على المعلومات ومرتكزاته وفقا للقانون الدولي، ووفقا لما نص عليه في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والمادة 10 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وغيرها من دعائم المعايير الدولية، كما جاء في الوثيقة التأسيسية النص على حق المواطنات والمواطنين في المشاركة بصنع القرار ومناهضة الفساد.
أتذكر في العام 2010 ذلك الصفر الذي حصلت عليه
مصر في إتاحة المعلومات الحكومية في تقرير منظمة الشفافية الدولية، وقتها أكد التقرير السنوي للمنظمة أن تحديات الحوكمة والشفافية ضخمة جدا، وقد تشكل عقبة رئيسية لأي حكومة تطمح نحو بناء شرعية.
واتذكر كذلك، وبعد ثورة 25 يناير، تجربة شخصية للمشاركة في ورشة عمل لشباب الأحزاب برعاية شركة جوجل العالمية؛ عن الحوكمة والوصول للمعلومات، وعرض وقتها المدرب تجارب متنوعة للحكومات الالكترونية والنفاذ للمعلومات، والإحصارات في إنجلترا وغيرها من الدول، وعلمنا وقتها الجوانب المتعددة لطرق البحث عن المعلومات وبناء تطبيقات عملية مفيدة، والوقوف على تجارب الدول المتقدمة، وكذلك التجارب الشخصية للسياسيين في تلك الدول وطرق تعاطيهم مع المعلومات ومع الناس... كانت تجربة إنسانية قيمة تستحق أن تحيا ذكراها داخلنا لأيام نعيش عليها ونستنشق أوكسجينها في واقعنا اليوم واقع اسفكسيا الحجب!!
وفي الوقت الذي نص الدستور المعدل عام 2014 في المادة 68 منه على "المعلومات والبيانات والإحصارات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية..." إلى آخر المادة، ذلك الحق الدستوري الذي تلتزم به مصر وفقا كذلك للتعاهدات الدولية التي اعتبرت الحق في الحصول على المعلومات ومنذ أكثر من 100 عام؛ أحد
حقوق الإنسان الأساسية، ولكن للأسف واقع الحال يثبت إصابة هذا الحق بالموت خنقا، وهذا ما حمل مجموعة من خبراء الأمم المتحدة، وعلى رأسهم السيد دافيد كاي، المقرر الخاص بالحق في حرية الرأى والتعبير، والسيدة فيونوالا ني أولين، المقررة الخاصة بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، للتحذير من تلك الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية لحجب المواقع الالكترونية بحجج واهية. وقد جاءت نتائج الرصد للمواقع التي تم حجبها طبقا لتقرير قامت به مؤسسة حرية الفكر والتعبير التي رصدت حجب 432 موقعا في الفترة من 24 أيار/ مايو وحتى 13 أيلول/ سبتمبر 2017.
تلك الممارسات واسفكسيا الحجب وتسجيل كل تلك الأرقام القياسية وغير المسبوقة؛ تؤهل تلك الحكومة لنيل جائزة أسوأ أداء على صعيد الالتزام بالحق الأساسي للشعب المصري في الحصول على المعلومات.. أوكسجين المعرفة الذي ترتعب منه الحكومات الضعيفة والمتشنجة والساعية دوما لاكتساب شرعية تفتقدها إلى حجب كل معلومة من شأنها الكشف عن واقع وإزاحة المستور عن أوهام. وكما قال كوفي عنا:، المعرفة تقود إلى القوة والمعلومات تقود إلى التحرر، أما التعليم فهو الوعد الذي نحظى به للتقدم!
ومع تردي أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وتواتر إصدار تقارير خطيرة ومقلقة من منظمات عالمية عديدة، وعلى رأسها التقرير الأخير لمنظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، وكذلك العديد من التقارير الأممية والتي راحت تصف جرائم التعذيب في مصر كالوباء وتصنفه على أنه جريمة ترقى للجرائم ضد الإنسانية، وهو كذلك.. كل تلك الأسباب جعلت حكومة الإنكار تسعى وبقوة لحجب كل تلك المعلومات عن الرأي العام الداخلي وكأنها من يريد "حجب الشمس بمنخل"، كما كانت تقول جدتي!!
واقع حقوق الإنسان ومعاناة آلاف المعتقلين لا يمكن حجبها، ولا يمكن الاستمرار في ادعاء العمى المؤسساتي وعدم المساءلة عن واقع عمليات التعذيب داخل مقار الاحتجاز وداخل السجون، وجرائم الإختفاء القسري المؤلمة.. حجب الحكومة للمعلومات لا ينفي ثبوت كل تلك الحقائق التي توثقها ذاكرة التاريخ ووسائل الإعلام المستقلة والعديد من وسائل الإعلام الجديدة، فلا نحن في حقبة الستينيات وأدواتها المحدودة وإعلام ما تراه السلطة والرأي الواحد وتنظيم الطليعة وتحية العلم، ولا هذه الأجيال منغلقة عن محيطها والعالم!! المعلومة حدث حر، طائر سريع وشجاع يجوب العالم ولا يبالي بالحواجز والحدود ويكسر بشغف حاجز الزمان والمكان ودروس الربيع العربي لم تنته بعد!! أمام التحول للعصر التكنولوجى ومغادرة بقايا العصر الصناعي؛ لا مفر من التعاطي مع أدوات العصر والانفتاح بمسؤولية وشفافية.
فحملات حكومة السيسي واسفكسيا الحجب غير المسبوقة وغير المبررة لا يمكن أن تحجب الحقائق؛ وإن نجحت في تأجيل المواجهة مع الحقائق، ولكنها مواجهة قادمة وكشف حساب لا مفر منه، ويا ليته لا يأتي على حساب مصلحة الدولة الوطنية المصرية؟!! ثمة حاجة لدور مؤسساتي لمؤسسات الدولة المصرية؛ قادر أن يحجب أو يحد من تغول السلطة المطلقة وإطلاق يدها في ملف
الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المصري، مما يحمل الدولة المصرية فاتورة ثقيلة ومثقلة. وأدعو وكلاء النيابة العامة والمؤسسة القضائية لمتابعة صفحات التواصل الاجتماعى للوقوف على حملات التضامن مع سجناء الرأي والاستماع لشكاوى المظلومين والمنتهكين. من المؤلم الاستمرار في إنكار وتجاهل معاناة هؤلاء؛ ممن هم خلف القضبان بلا ذنب سوى الاختلاف. فأي ذنب لمصلح وباحث له جهود بحثية عميقة في مجال تعميق الديمقراطية والحوار الوطني والمصالحة المجتمعية، كهشام جعفر المهدد بفقدان بصره والفشل الكلوي؟ وللأسف تغيب المسؤولية والدور المؤسساتي مع التفاعل مع هذة الحالة الإنسانية الحرجة، وغيرها العديد والعديد من خيرة كوادر الدولة المصرية وأساتذة الجامعات والصحفيين وأصحاب الرأي؛ وغيرهم ممن يتعرضون للموت البطيء خلف القضبان بالإهمال الطبي.
لا أكثر ظلما من تخلي المؤسسات عن دورها في ضبط الخصومة الثأرية ما بين السلطة ومعارضيها من أبناء الوطن؛ والذهاب في الخصومة إلى أقصى مدى، حتى نسمع عن انتهاك الحق فوق الدستوري والطبيعي للإنسان في الجنسية والتهديد بإصدار تشريع معيب لسحب الجنسية عن كل معارض!! هذا العبث التاريخي يستوجب مسؤولية تاريخية لمؤسسات الدولة المصرية الوطنية.. هي مسؤولية تاريخية واجبة من أجل سلامة الدولة المصرية وأمن المجتمع. يجب التحلي بالشجاعة والمسؤولية المجتمعية، والتعامل بأدوات العصر التكنولوجي والانفتاح عليه، فتلك العقليات من حراس السلطة التي لم تغادر حقبة الستينات وأدوات العصور الغابرة؛ لا تدرك ولا تريد أن تفهم أننا أمام تحول تاريخي ومعرفي لعصر تكنولوجيا المعلومات.
برهنت التجربة والتحول التاريخي ضلوع المواطن العادي في صناعة الأحداث ونشر الوعي وفرز الأخبار، ولم يعد المواطن أسير ما تجود به تلك الحكومات من فتات معلومات مغلوطة وناقصة لا تشبع فضوله ولا تقنع عقله. الرحلة قد تبدو طويلة، ولكنها ستكون أسرع بتقنيات وطبيعة العصر، ومعركة الوعي مستمرة، والتغيير حياة؛ والحياة مستمرة!