عكست مواقف العديد من النخب السياسية المحسوبة على صنّاع القرار في بعض بلدان
الخليج العربي لاسيما السعودية والامارات على وجه التحديد التأييد الرسمي للإستفتاء الذي أجرته سلطات إقليم
كردستان العراق في 25 سبتمبر، لا بل ذهب البعض في هذه البلدان أبعد من ذلك ليؤكّد علناً على تأييده لإنفصال الإقليم عن العراق.
المتابع من الخارج يحاول تفسير هذه المواقف بطريقة عقلانية فيبحث عن الأسباب والظروف ليصل إلى استنتاج مفاده أنّ هذا الموقف ربما يكون نابعاً في الغالب من التنافس الاستراتيجي مع إيران في المنطقة وأنّ دعم استقلال الإقليم هو للتخفيف من النفوذ الإيراني، فضلا عن أنّ التداعيات الناجمة عن قرار من هذا النوع قد تؤدي الى تشجيع اكراد إيران على الانفصال وربما يكون ذلك شيئا جيّدا لبعض دول الخليج من وجهة النظر هذه.
هناك إشكاليات كبرى في مثل هذا الطرح الذي يستند الى المنطق في تفسير او تبرير موقف هذه الدول. فعملية صنع القرار في هذه الدول عملية غير منطقية وغير علمية وغير مؤسساتية، وهو ما يجرد غالبية القرارات من هذا النوع من الحكمة المتوخاة منها. وعوضا عن ذلك، فانها غالبا ما تستند الى النكاية السياسية المجبولة بطابع قبلي، حيث تغلب هذه العادات على سلوك الفاعلين الرئيسيين في هذه البلدان، لذلك فان التفكير في عواقب الامور ابعد ما يكون عن جوهر القرارات المتخذة. ما يهم هو ما يحصل اليوم لا غدا!
لكن من قال إنّ ما يحصل اليوم لن يؤثر على الغد أو أنّ نتاج الغد لا يُصنع من خلال ما يحدث اليوم؟ بالنسبة الى النخب الحاكمة حاليا في هذه البلدان، فانّ ذلك لا يهم، ولذلك نادرا ما تجد من يناقش عواقب مثل هذه الأمور هناك.
خلال الشهرين الماضيين على سبيل المثال، ركّزت التقارير الاعلامية في البلدين على وجود سياسة جديدة للتقارب مع حكومة بغداد المركزية، ثم ما فتئت كتائب الصحفيين المواليين تمجد هذه
السياسة الجديدة وتنظّر لها. هل سأل أحدهم ما هي الانعكاسات المحتملة لتأييد هذه الدول الاستفتاء الكردي -فضلا عن الانفصال عن العراق- على العلاقة مع حكومة بغداد المركزية؟ كيف من الممكن ان يخدم المسارين المتناقضين نفس الهدف –الذي هو تخفيف نفوذ ايران في العراق- في آن معا؟
ماذا باستطاعة السعودية والامارات أن تقدّم للإقليم إذا وقفت كل من ايران وتركيا وحكومة بغداد ضد الانفصال. الجواب معروف، انظروا إلى سوريا، ماذا فعلت السعودية والامارات في نهاية المطاف؟ ماذا فعل الطرفان للشعب اليمني؟ لا شيء. سيكون من المستحيل على هذه الدول مساعدة الاقليم، فللجغرافيا أحكامها التي لا يمكن تجاوزها بشكل مطلق.
ولا شك انّ موقف هذه الدور سيضر بعلاقاتها الصاعدة مع حكومة بغداد وهذا يعني فشلا اضافيا في تحييد النفوذ الايراني في العراق، اذ غالبا ما سينتهي الامر في مثل هذه الحالة بزيادة هذا النفوذ داخل بغداد وداخل إقليم كردستان معا.
أمّا اذا كان المقصود دعم الانفصال لمجرّد التخريب على امل أن ينتقل هذا التخريب الى الداخل الايراني، فان بعض الدول الخليجية تجيد التخريب بالفعل، لكن الفرق انّ الجانب الايراني يخّرب في الدول العربية بشكل مدروس ليتمكن من إدارتها فيما بعد لصالحه، لكن العديد من الدول الخليجية تجيد التخريب دون أفق أو هدف يخدمها. واذا كان هذا هو المقصود من من دعم انفصال اقليم كردستان العراق عن العراق، فكيف ستدير السعودية مثلاّ حدودها مع العراق المقسّم مستقبلا؟ مرة اخرى نعود الى مثال اليمن.
الامر الثاني يتعلّق بتفتيت المنطقة. بعيدا عن موضوع العلاقة مع حكومة بغداد المركزية، بعض النخب الخليجية فضلا عن صانعي القرار في هذه الدول يعتقد انّ دعم انفصال الإقليم لا يمكن ان يرتب أي خسائر كبيرة عليهم اذ لا يمكن لتداعيته أن تصيبهم، ففي نهاية المطاف لا يوجد أي أقليات كردية في أي دولة خليجية، ولذلك فان معارضة تركيا وايران إنطلاقا من النكاية السياسية عبر بوابة إقليم كردستان يعد الخيار الأقل تكلفة والأكثر فعالية وفق وجهة النظر هذه.
لكن من قال إنّ المنطقة ستبقى موحّدة إذا ما حصل ذلك فعلا وانّ باقي الدول العربية او الخليجية لن يصيبها التفتت بعد ان أصابها الانهيار؟ ومن يقول ربما أنّ الانفصال سيبقى على أساس قومي؟ ليس هناك أقليات كردية في الدول الخليجية لكن هناك بالتأكيد أقليات اخرى لديها نفس المقومات الموجودة لدى أكراد العراق ولديها ربما دوافع أيضا للانفصال. هل باستطاعة أي من دول الخليج أن تحمي نفسها في منطقة مفتتة؟ أشك بذلك جدا.
النقطة الثالثة في هذا النقاش تتعلق بانسجام مواقف هذه الدول مع الحكومة الاسرائيلية. عندما تأيد تل أبيب انفصال شمال العراق فليس ذلك حبّا بهم ولا يمكن ان نحمّل وزر مثل هذا الأمر لبعض الأكراد، فان قرر الدروز أو المسيحيون أو حتى الشيعة أو العلويون في أي بلد من البلدان العربية الانفصال فاسرائيل ستؤيّد ذلك حُكما، لكن ماذا ستجني بعض الدول الخليجية من ذلك ؟ لا شيء.
المكاسب السياسية من التقرّب من إسرائيل ليست مستدامة ولطالما ثبت تاريخيا ان الانظمة التي تراهن على ذلك تسقط في نهاية المطاف أو تسقط بلدانها، وعندما يحصل ذلك، لن تساعد تل أبيب هذه الانظمة أو هذه الدول بل ستستثمر في سقوطها، وما حصل سابقا لن يكون استثناء.