نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالا للباحثة في معهد بروكينغز للدراسات سارة ييركز، تقول فيه إن الحكومة
التونسية قامت بثلاثة تحركات مقلقة خلال أسبوع واحد.
وتقول ييركز: "إن نظرنا إلى هذه التحركات مجتمعة، فإنها مؤشر على تراجع خطير في التطور الديمقراطي، أولها حصل يوم 11 أيلول/ سبتمبر، عندما صادق البرلمان التونسي على التعديل الوزاري، ومكن من تغيير 13 من 28 وزيرا في الحكومة، وكانت تلك خطوة مرعبة، خاصة أن بعض الوزراء الجدد لهم علاقات بالنظام السابق، الذي ترأسه الديكتارتور زين العابدين بن علي، الذي تم خلعه في 2011 خلال ثورات الربيع العربي".
وتشير الكاتبة في مقالها، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن "الحدث الآخر حصل بعد ثلاثة أيام، وبعد حوار مثير للخلاف، دام سنة كاملة، بخصوص قانون المصالحة الاقتصادية المثير للجدل، الذي قدمه الرئيس باجي قايد
السبسي، (الذي أطلق عليه اسم قانون المصالحة الإدارية)، الذي صادق عليه البرلمان بـ 119 صوتا مقابل 98، وامتنع 90 عضوا عن التصويت، و(انضم كثير من الممتنعين عن التصويت للمتظاهرين خارج البرلمان)، ويمنح هذا القانون العفو عن الموظفين الذين سهلوا الفساد في نظام ابن علي، دون أن يتم عرضهم على القضاء، بالإضافة إلى أن القانون يتجاوز الجهاز الرسمي المسؤول عن العدالة الانتقالية، المتمثل في هيئة الحقيقة والكرامة، المكلفة بالتحقيق بالفساد وغيره من الجرائم الاقتصادية، ويسمح القانون للحكومة بأن تلغي الإدانات للموظفين الحكوميين الذين أدانتهم محاكم العدالة الانتقالية".
وتلفت ييركز إلى أن "الحدث الأخير كان في 18 أيلول/ سبتمبر، عندما أعلنت الحكومة أن أول انتخابات بلدية، التي كان من المفترض إجراؤها في 17 كانون الثاني/ ديسمبر، ستؤجل للمرة الثالثة، وستؤجل في الغالب حتى نهاية آذار/ مارس 2018، وكان من المفترض إجراء هذه الانتخابات في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2016، لكنها أجلت إلى آذار/ مارس 2017، ومن ثم إلى كانون الثاني/ ديسمبر 2017؛ بسبب عوامل لوجستية وسياسية، وقامت الحكومة هذه المرة بتأجيلها بسبب استقالة رئيس لجنة الانتخابات خلال الصيف، ما أبطأ في الترتيب للانتخابات".
وتستدرك الكاتبة بأنه "بالرغم من أن كلا من هذه الإجراءات مزعج وحده، إلا أنها إلى عندما تجتمع فإنها تشير أن هناك محاولة من حكومة السبسي لتحجيم التقدم الديمقراطي في البلد".
وتقول ييركز: "كنت في تونس عندما حصلت هذه الأمور، وكان التوتر واضحا، ومن خلال الحديث مع ناشطين ومسؤولين حكوميين تبين لي أن هذه الإجراءات الثلاثة تسببت في نفور الناس، الذين هم في الأصل منتقدون لحكومتهم، وبحسب موقع (Arab Barometer)، وهو موقع مركز استطلاعات رأي، فإن عدد التوانسة الذين يقولون إنهم (يثقون في الحكومة إلى حد وسط أو حد بعيد)، تراجع من 62% عام 2011 بعد الثورة مباشرة، إلى 35% عام 2016، وحتى أكثر السياسيين شعبية في تونس، مثل رئيس الوزراء يوسف الشاهد سيكون محظوظا إن حصل على تقدير أكبر من 35%، وفي الواقع فإن بعض التونسيين الذين تحدثت معهم يعتقدون أن الحكومة تتنازل، (وعلى العكس يقول المسؤولون الحكوميون إنهم يرون في هذه الإجراءات تحسينا لوضع البلد اقتصاديا)، وبالإضافة إلى ذلك، ومع أن العديد من الإصلاحات
الديمقراطية الأولى صاحبتها عملية استشارية عامة، إلا أن الإجراءات الأخيرة لم تكن كذلك، ما يشير إلى أن الحكومة لا يهمها كسب الشعب".
وتبين الباحثة أن "الشرخ بين الشعب والحكومة هو أوضح ما يكون في الشارع، ففي عام 2015 عندما تم تقديم مشروع قانون المصالحة الاقتصادية لأول مرة، استطاعت شبكة (منيش مسامح) دفع عدة آلاف للتظاهر ضد القانون، واحتجوا بأن القانون سيقطع الطريق على العدالة الانتقالية، ويمنح العفو للمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الفاسدين، أما السبسي وحزبه (نداء تونس)، فأيدوا القانون وادعوا بأنه سيسمح بعودة أموال الدولة، ويسمح للبلد بإغلاق صفحة الماضي، ومع أن سلسلة المظاهرات الأولية نجحت في تأجيل تمرير القانون لأكثر من عامين، إلا أنه تم تمريره أخيرا، وهددت (منيش مسامح) في الأيام التي تلت تمرير القانون، بنشر أسماء أعضاء البرلمان الذين صوتوا لصالح القانون، وبأن تكشف عن أولئك الذين سينتفعون بهذا القانون، وهم الموظفون الحكوميون الذين سيلغي هذا القانون إداناتهم".
وتعلق ييركز قائلة: "كما جادلت سابقا، فإن التونسيين يلجأون بشكل متزايد للشارع، بدلا من صندوق الاقتراع، للتعبير عن مظلومياتهم؛ لأن الأحزاب السياسية الحالية خيبت آمالهم، ويرون في المظاهرات أسلوبا فاعلا في تحقيق أهدافهم، وقاطع ثلثا الشباب التونسي الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 2014، وهي الانتخابات الحرة والنزيهة الثانية التي تعقد في تاريخ البلد، حيث شعروا بأن الأحزاب لا تمثلهم، وهذا أدى إلى الدخول في حلقة مفرغة، حيث لا يشعر المسؤولون التونسيون بأي حوافز تجعلهم يشركون الشباب؛ لمعرفتهم أنهم لن يصوتوا، وكلما استمر هذا الوضع، زادت الهوة بين الشعب وممثليه المنتخبين، ما يعطي ذخيرة للمتطرفين الذين يستهدفون تونس، ويساعد في تجنيد الشباب الغاضب لصالح
تنظيم الدولة أو غيره من المنظمات المتطرفة، وإلى الآن خسرت تونس بعض آلاف الشباب لتنظيم الدولة وغيره من الحركات المتطرفة، وشهدت تونس إلى الآن خسارة بضعة آلاف من الشباب لصالح تنظيم الدولة، وتدرب الشباب الذين قاموا بالهجمات في تونس وسوسة في ليبيا، وهناك آلاف المتطرفين التوانسة في سوريا والعراق، الذين قد يسعون للعودة إلى تونس يوما ما".
وتفيد الباحثة بأن "هذه الإجراءات الأخيرة لا تتسبب بالانقسام، لكنها تؤكد مخاوف كثير من الناشطين التونسيين بأن الحكومة تقدم الفعالية على الديمقراطية، وفي مقابلات مع التوانسة في حزيران/ يونيو 2016 -قبل شهرين من تشكيل الشاهد حكومته الأولى- قال لي صحافي تونسي: (عاد الحرس القديم)، ويشعر الشباب التونسيون بالذات بأنه تم التخلي عن الثورة، وأن الحكومة تخلت عن المبادئ الديمقراطية، وبدأت بعدم إعارة الاهتمام لآليات العدالة الانتقالية، التي تم وضعها لمنع تكرار استبداد النظام السابق، وعندما قال السبسي في 18 أيلول/ سبتمبر على التلفزيون بأنه يعتزم تغيير دستور 2014، الذي يعد أهم إنجازات الثورة -وبقوله هذا أثار المخاوف- وكانت هناك تكهنات من أن السبسي يظن أن البرلمان ليس ناجحا، ويسعى لتعزيز سلطته ليستطيع القيام بما يريد من إجراءات مباشرة".
وترى ييركز أن "منع تدهور الأمور بعد الثورة يحتاج إلى اتحاد بين الأحزاب السياسية المعارضة المتشظية والمجتمع المدني؛ لتصارع القوى اللاليبرالية داخل وخارج البلد، وستكون انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية مهمة لتساعد في تجاوز الخلافات بين قوى المعارضة، وستوفر الانتخابات الفرصة للتوانسة للتعبير عن رغبتهم في التغيير بطريقة مباشرة وديمقراطية، لكن بحسب استطلاع للرأي في آب/ أغسطس، أجراه المعهد الجمهوري الدولي، فإن 45% فقط من التونسيين (يمكن أن أو غالبا ما يصوتون في انتخابات البلدية)، وهذا تراجع من نتيجة استطلاع أجري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، ولجذب الناس لصندوق الاقتراع يجب على الأحزاب أن تقوم بتطوير برامج واضحة ومواقف سياسية واضحة، تبين للناس كيف ستقوم هذه الأحزاب بمعالجة التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجه البلاد، وعلى الناس أن يفهموا أن الاحتجاج هو إحدى أدوات الديمقراطية فقط".
وتنوه الكاتبة إلى أن "للمجتمع الدولي دورا يؤديه أيضا، فأولا: على أمريكا وأوروبا الاستمرار في دعم المجتمع المدني التونسي ماديا ومعنويا، حيث يؤدي المجتمع الدولي دورا مهما، بصفته رقيبا على الحكومة، من خلال أنشطة، مثل حضور جلسات في البرلمان، وتوفير المعلومات على الإنترنت فيما يتعلق بكلمات أعضاء البرلمان وتصويتهم، وتقييم المسؤولين بناء على وعودهم الانتخابية، ويجب على المجتمع المدني، بالإضافة إلى الإعلام، الاستمرار في إطلاع العامة محليا وفي الغرب حول ما تفعله الحكومة".
وتخلص ييركز إلى القول إن "أصدقاء تونس في حوض البحر الأبيض المتوسط وفي أمريكا يجب أن يبقوا عيونهم على البلد، ففي كثير من الأحيان يخطئ الزعماء الغربيون عندما يعتقدون أن تونس لا تحتاج مساعدتهم، مثل جاراتها التي مزقتها الحروب، وهذا لا يساعد تونس ولا المنطقة بكاملها، وأثبتت الحكومة التونسية أنها شريك اقتصادي وأمني قوي لأوروبا وأمريكا، ويمكن الاعتماد عليه، وأن بيئتها السياسية والاجتماعية تحتاج إلى زيادة في المساعدات المالية، والتحولات الديمقراطية غيرة مضمونة النتائج ومضطربة، ومع وجود تنظيم الدولة في جارتها ليبيا، فإن فشل التحول في تونس ستلمس آثاره خارج حدودها، ولذلك فإنه من مصلحة المنطقة ومصلحة الغرب التأكد من نجاح تونس في الحفاظ على المبادئ الديمقراطية، التي ضحى العديد من التوانسة بأرواحهم لأجلها في 2011".