بعد أن انتهيت وابني عبد الرحمن من مشاهدة فيلم "مايكل كولينز" وجه إلي سؤالين. لكن قبل أن أذكر السؤالين، من المهم أن نتعرف ولو باختصار شديد على سيرة هذه الشخصية المهمة في تاريخ إيرلندا.
كان مايكل كولينز Michael Collins (1890 - 1922) واحداً من أهم قادة حرب استقلال إيرلندا عن بريطانيا في مطلع القرن العشرين.بعد أن حارب جيش الاحتلال البريطاني لسنوات، ساقه قدره إلى لندن ليتفاوض مع الحكومة البريطانية ويبرم معها اتفاقا منحت بموجبه إيرلندا نوعا من الاستقلال الذاتي مقابل التخلي عن النضال المسلح.
إلا أن الاتفاقية قسمت إيرلندا إلى شطرين، ظل الشطر الشمالي بموجبها تحت الحكم البريطاني. لم يرق ذلك لبعض رفاق كولينز، فنشب خلاف أدى إلى انشقاق داخل الحركة الوطنية الإيرلندية وأفضى إلى اندلاع حرب أهلية قاتل فيها رفقاء السلاح بعضهم بعضاً.
من يرغب في معرفة التفاصيل، فإن فيلم "مايكل كولينز" الذي أنتج عام 1996 يستحق المشاهدة رغم نهايته المؤلمة، والتي يمكن أن تذكرنا بما آلت إليه أوضاع حركة النضال الوطني ضد الاحتلال الصهيوني في فلسطين، بالطبع مع وجود أوجه اختلاف كثيرةوكبيرة.
أما السؤال الأول فكان كالتالي: "لماذا كان هؤلاء قادتهم شباب بينما نحن قادتنا كهول؟".
وأما السؤال الثاني فكان: "ماذا برأيك ينبغي أن تكون عليه وجهة الشباب المسلم في بريطانيا؟".
لربما حفز عبد الرحمن على طرح السؤال الأول أنه رأي في الفيلم مايكل كولينز يقود حركة النضال المسلح ضد المستعمر البريطاني في إيرلندا ولما يتم العقدالثالث من عمره، ويفاوض البريطانيين على الاستقلال قبيل اغتياله بقليل وهو في الحادية والثلاثين.
ما من شك في أن كولينز ما كان ليتصدر لولا ما أوتيه من ملكات ومواهب ميزته عن غيره نال بها ثقة أقرانه واحترام أعدائه. ولربما قارن ابني هذه الصورة بما يشاهده من واقع مشاريع الإصلاح والتغيير أو حركات النضال والمقاومة في العالم العربي والإسلامي التي يحتل مواقع الصدارة فيها شيوخ إن لم يكونوا كهول، وبعضهم لم يؤهله لاحتلال موقعه سوى الأقدمية في الحركة أو التنظيم. ونتيجة لهذا الوضع غير الصحي ذهب البعض يتساءل لماذا لا يترجل هؤلاء ويسلموا القيادة للشباب ولمن هم أقدر منهم على حمل الأعباء.
والحق، أن كولينز، ومثله في ذلك مثل كل المناضلين الذين خلد التاريخ ذكرهم، لم ينتظروا أحداً ليترجل ويسلمهم القيادة، بل ظروفهم وعزمهم وإبداعاتهم وتضحياتهم هي التي بوأتهم مواقع الريادة.
كان حسن البنا رحمه الله في الثانية والعشرين من عمره عندما أسس مع ثلة كريمة من أقرانه ما أصبح بعد ذلك أكبر حركة إسلامية سياسية في العالم، وحينما فعل ذلك لم ينتظر من أحد أن يخلي له موقعاً أو يفتح له طريقاً. وقضى نحبه شهيداً وهو في الثالثة والأربعين من عمره.
منذ أن انتكس الربيع العربي وموضوع الشباب لا يغيب عن كثير من الحوارات، ويرى بعض الناس، ومنهم عدد كبير من الشباب الذي أحبطه ما انتهت إليه الثورات العربية من إجهاض، أن العلة تكمن في عدم تمكين الشباب وإعطائهم الفرصة ليقودوا المسيرة ويتصدروا المشهد. وأصحاب هذا الرأي يلومون الشيوخ والكهول ويحملونهم المسؤولية عما وقع من انتكاسات.
وذهب البعض يؤسس لمشاريع تهدف إلى تمكين الشباب، وفي سبيل ذلك تنعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات والورش تلو الورش، وتحجز لذلك الفنادق، ويشد المشاركون إليها الرحال، وتنفق فيها الأوقات والأموال. ولا أراني متفائلاً بكثير مما أشاهد أو أسمع لقناعتي بأنه لا يمكن لشباب محبط يائس أن يقود مشروع تغيير قائم ناهيك عن أن يتمكن من التأسيس لمشروع جديد.
ويغلب على ظني أن نظرية أن يتخلى أحد لأحد عن موقع القيادة إنما هي أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع. وما نتعلمه من تجارب من سبقنا، وما يمكن أن نوثقه من تجارب جيلنا، يدل على أن المشروع الذي يفشل ينتهي، وينتهي معه أصحابه، ولابد من مشروع جديد، بقيادة جديدة، تفرض نفسها ولا تنتظر أن يفرش لها السجاد الأحمرحتى تخطو عليه نحو موقع الصدارة.
أخشى أن تؤدي بعض برامج تمكين الشباب إلى العكس مما ترجوه، فقد يتحول الشباب إلى مجرد ديكور، أو أدوات، وبعضه قد تفسده البيئة التي من المفترض أن يمكن من خلالها، بيئة الفنادق ذي الخمسة أو الأربعة نجوم والبوفيهات التي لا ينضب معينها.
جيل والدي كان متمردا على جيل جدي، وجيلي تمرد على جيل أبي، ولا مفر من أن يتمرد جيل أبنائنا علينا إن رأوا أن جيلنا قد انتهت صلاحيته، وأرادوا أن يستلموا الراية وينطلقوا بها قدماً، وخاصة بعد أن منينا نحن بهزيمة مدوية في هذه الجولة من النضال أمام أصحاب الثورة المضادة الذين أرعبهم احتمال التغيير.
ولن ينجح جيل جديد في تمرده إذا غلبت عليه فكرة تقديس الأشخاص أو الهيئات أو المشاريع، فهذه يمكن أن تفسد، ويمكن أن تفقد صلاحيتها وتموت، أما الفكرة التي من أجلها يناضل عشاق الحرية والكرامة فلا تموت أبداً. ولكن لابد هنا من تحذير، وهو أنه إذا كان
التقديس معيباً ومرفوضاً فإن الاحترام والتقدير مطلوب بل هو وجاب، وشتان بين الاحترام والتقديس.
وأما السؤال الثاني الذي طرحه على عبد الرحمن، فاقترحت أنه ربما احتاجت الإجابة عليه إلى عقد لقاء عصف ذهني تشارك فيه مجموعة من أبناء جيلي ومجموعة من أبناء جيله، ولعل هذا يتحقق في القريب.