ثمة نقاش حول هويّة منفذي هجوم الواحات الأخير في مصر. هذا النقاش مفهوم تماما، بيد أنه عادة ما يتورّط في مشكلتين مُهمّتين؛ في الأولى يقصر البحث في الفاعل على المنفّذ المباشر الذي يستهدف الدولة بالعنف من خارجها، وهذه المشكلة تجرّ، من جملة ما تجرّ، إلى مواقف وإدانات، قد تفتقر على نحو ما إلى الفاعلية الأخلاقية الصحيحة، وهذه هي المشكلة الثانية، أي الزيف الأخلاقي الذي يُشكّل جوهر الموقف من الفعل، بحسب فاعله.
لا نقول إنّه لا فرق بالمطلق، بين أن يكون منفّذ الهجوم هو "داعش"، أو مجموعة هشام عشماوي (الضابط السابق في قوات الصاعقة) التي يُقال إنّها مقرّبة من القاعدة، أو تنظيم "حسم" الذي يُقال إن منتسبيه يتحدرون أساسا من جماعة الإخوان المسلمين، ولا نقول إنّه لا فرق بين أن تكون العملية استدُرجت إليها القوات المصرية عبر اختراق صغير أو كبير، أو كانت مواجهة فرضتها الصدفة البحتة، أو كان في جنب منها دور لتنافس أجهزة الدولة المصرية.
الشقّ الأول من تلك الفرضيات في الفقرة أعلاه، أي الذي يتناول هويّة المنفّذين، يستبعد المسؤولية السياسية والأخلاقية للدولة تماما، وعلى نحو ما يستبطن ذلك توثينًا للدولة، التي قتلت الآلاف من النّاس، فضلا عمن سجنتهم في أوضاع مزرية ومفتقرة للحدّ الأدنى من العدالة، أو أجبرتهم على الهروب خارج الوطن، أو طاردتهم في أرزاقهم، واستولت على ممتلكاتهم، بالإضافة إلى الضغط الاجتماعي الذي فرضته عليهم، وعمليات التشهير المتوحشة التي قصدت بها تحطيمهم معنويا، وعزلهم مجتمعيا، وتوفير الأغطية لسياساتها، بما في ذلك العنفية منها.
فعلت الدولة ذلك بصورة لا تتناسب مع يفترض أنها تملكه من أدوات الضبط والسيطرة، فباستثناء مواجهاتها في سيناء مع جماعة "أنصار بيت المقدس" التي تحولت لاحقا إلى "ولاية سيناء" التابعة لتنظيم "داعش"، وباستثناء المجموعات المتمرّدة التي ظهرت لاحقًا بعد انقلاب 13 يونيو، فإن فعل الدولة الأوسع عنفا في نتائجه (عدد القتلى والمعتقلين مثلا)، طال التيار السلميّ من خصومها، أي ذلك التيار الذي رفع شعار "سلميتنا أقوى من الرصاص".. لكن الدولة، بحسب مقتضيات التوثين، يحقّ لها أن تفعل ذلك كلّه!
أما الشق الثاني من الفرضيات، فهو وإن لم يستثن الدولة من المسؤولية، ولكنه باقتصاره على أسئلته تلك، (هل هو اختراق؟ ما حجمه؟ هل هي صراعات الأجهزة؟ هل هي كفاءة المؤسسة الأمنية المهترئة قتاليا)، فإنّه لا يحيل إلى المسؤولية الأخلاقية للدولة.
وجوهر المشكلة الناجمة عن سلوك هذه الدولة، بمعنى لو أن المذبحة وقعت في المقاتلين المتمردين؛ فإنّ صاحب هذه الأسئلة لن يطرحها، فقد فعلت الدولة ما عليها، واستخدمت حقّها، في قتل خصومها! وقد رأينا أن الدولة أوقعت مذبحة في محتجين سلميين، ولم يلق ذلك استنكارًا من كثيرين!
الحقيقة، أن الدولة العربية، بما في ذلك الدولة المصرية، هي دولة مهترئة، لا من جهة الكفاءة فحسب، ولكن من جهة الشرعية أيضا، وهذا بقدر ما يُساهم في تفسير الثورات العربية، التي لم تُحسن التعبير عن نفسها خطابيا، نظرا لمصادرة الدولة للسياسة من المجال العام.
ومن ثمّ افتقرنا نحن العرب، والمحتجون والثوار منا، للقدرة على الوعي الدقيق بما نفعل، ومن ذلك الثورات العربية، التي بدت أنها تستهدف رأس النظام، أو النظام، ولكنها في العمق كانت تحتاج على فشل الدولة العربية.
هذه الدولة لها سياقاتها التاريخية، التي يضيق المقام عن استدعائها الآن، وفي صيرورتها داخل تلك السياقات، قدّمت وعودا كثيرة، وحاولت التخلص من تناقضات متنوعة، ولكنّها فشّلت في ذلك كلّه.
فقد فشلت في التنمية، وفي الخروج من حالة الاستبداد إلى حالة سياسية أرقى، واقترفت كل أشكال الظلم، وتكونت في مسارها التاريخي على نحو يُعجز عن إصلاحها من داخلها.
وفشلت من قبل في تحرير فلسطين، أو في مواجهة الاستعمار، بل تحولت إلى أداة من أدواته، وفشلت في حل التناقض بين الوطنيات الحادثة والشعور العميق بالانتماء لفضاءات أوسع عربية أو إسلامية، وفشلت في حل مسألة الاضطراب الثقافي وعلاقة الدين بها وبمجمل المجال العام.. بل فشلت في كل شيء تقريبا.
في الأثناء، كان يتراكم لدى العربي، شعور مركب من الإذلال، الشعور بصفته عربيا أو مصريا بالذل إزاء البشرية المتفوّقة، والشعور بالذلّ الشخصي إزاء الدولة التي تقهره، دون أن يتوفّر له أي قدر من إمكانية الاحتكام إلى مستوى مقبول من العدالة، كان يمتزج الذلّ بالافتقار إلى الأمن.. لا يمكنك أن تشكو، أو أن تصرخ!
لم تحتكر الدولة هنا السياسة فحسب، بل احتكرت كل شيء، وهي بدورها محتكرة إلى حد التماهي، لنخبة حاكمة، تسمى النظام، ولذلك فإنني لا أفرق حين حديثي عن الدولة أو النظام، وأي تفريق في حالتنا العربية، قد ينطوي على شرعنة خفيّة لممارسات النّظام باسم الدولة، لذلك نحن نسمع كلاما كثيرا عن الحفاظ على الدولة ومؤسساتها من ضحايا الدولة أنفسهم.
لا شك بأن الدولة جعلت من رعاياها عبيدا مازوشيين، يحملون في أنفسهم شيئا من تلك العبودية حتى وهم يعارضونها، قد يتمظهر في صورة بالغة من العنف عند الرغبة الجامحة في التخلص منه، أي من بقية العبودية في نفوسهم، إلا أن احتكارها لكل شيء، صادر من النّاس القدرة على الوعي حتى بذواتهم وأفعالهم، كهؤلاء الذين يخلقون تمييزًا غير واع بين النظام والدولة.
إن الاحتكار الكامل، أي غلق كل المجالات، ومصادرة كل الأدوات، للتظلم، أو إبداء الرأي، أو طلب الحق، أو محاولة الإصلاح، يحيل الدولة إلى كيان خالص من الوثنية غير الأخلاقية، وهذا يفرض بدوره حتما، حين نضوج الشروط الموضوعية، نمطا من المسلكية العنيفة ضد الدولة، لا يقيم وزنا لكل مقولات مشروعية الدولة أو احتكارها للعنف، إذ تصبح مقولة احتكار العنف هذه، دافعًا إضافيا للتمرّد على الدولة، بصرف النظر عن وعي المتمرّدين الدقيق بموقفهم من الدولة، لكن فعلهم أحسن تعبير عن موقفهم الحقيقي منها.
هذا السبب يوجِد احتقارا في نفوس المتمردين يحملونه تجاه مقدسي الدولة من عامة الناس، قد يتحول إلى موقف فعليّ منهم، يسعى في وقت ما إلى التغطي بحجج سياسية أو فلسفية أو دينية لاستهدافهم، ولكننا في نموذج عملية الواحات، رأينا تمييزًا مقصودًا بين الضباط والجنود، ظهر في قتل الضباط دون الجنود؛ الذين أطلقت عليهم النار بما يصيبهم بإعاقات جسدية لا تؤدّي لموتهم.
إن الاحتكار الكامل، احتكار القوى العظمى للعالم، واحتكار الدولة لكل شيء في مجالها الخاص بها، يصيب العربي المسلم بالعجز الكامل، وهو عجز مؤسّس على نمط قاس وعميق من الظلم.. الظلم الذي لا يجد إزاءه سبيلا لرفعه، بل وحتى للتظلم منه..
إنّه ثالوث العجز، والذل، والظلم.. ثالوث لا بد وأن يتمظهر في العنف في وقت ما، وربما يصير تمظهره ثمنا باهظا يدفعه النّاس كلهم، لأنهم لم يأخذوا على يد الظالم.