لم تنتظر الحكومة المركزية في مدريد كثيراً لتجتمع
غرفتها الثانية في البرلمان (مجلس الشيوخ)، ويعلن عن التطبيق الفوري للمادة 155 من
الدستور الإسباني لعام 1978؛ التي قضت فقرتها الأولى بوضوح بالآتي: "إذا
لم تمتثل أية مقاطعة من المقاطعات التي تتمتع بحكم ذاتي للدستور أو القوانين، أو انتهكت
بشكل خطير المصلحة العليا للدولة الإسبانية، فإن على الحكومة المركزية استدعاء حاكم
المقاطعة، وإذا لم يحضر، ومع الحصول على أغلبية من مجلس الشيوخ، يمكن اتخاذ
الإجراءات اللازمة، من أجل إجبار المقاطعة على احترام التزاماتها، قصد حماية
المصلحة العامة للبلاد".
اكتملت في الواقع جميع التحوّطات الواردة في الفقرة
الأولى من المادة 155، حيث لم يحصل الانصياع المطلوب من قبل برلمان كتالونيا، الذي
اجتمع الجمعة 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وصوت لصالح الإعلان عن الانفصال بتأييد
70 نائبا من أصل 130، ومعارضة
10 فقط، فما كان على رئيس الحكومة المركزية في مدريد غير دعوة مجلس الشيوخ للنظر
في تفعيل المادة 155، وبسط اليد على إقليم كتالونيا بكامله، وهذا ما حصل فعلا صباح
يوم السبت الموالي (28 تشرين الأول/ أكتوبر 2017)، فتم نتيجة ذلك تعليق الحكم الذاتي لكتالونيا إلى حين
إجراء انتخابات جديدة، يُراهَن عليها لإيجاد مخرج لأزمة لم تشهد إسبانيا نظيرا لها
على امتداد عصرها الحديث.
الفقرة الأولى من المادة 155 من الدستور الإسباني؛ لم تتضمن تدقيقات وتفاصيل
عن "الإجراءات اللازمة" التي يتوجب اتخاذها لإرجاع الأوضاع إلى حالتها الطبيعية
نحن في الواقع أمام إرادتين متباعدتين إلى حد التنافر: إرادة الدفاع عن
الوحدة الوطنية يإسم الدستور، والقوانين المرعية، وإرادة المناداة بالاستقلال
لا شك أن قرار الحكومة
المركزية في مدريد نهائي ولا رجعةَ فيه؛ لأن السماحَ بالانفصال أو الاستقلال
سيُفضي إلى نتائج لا يستطيع أي أحد تقدير حجم خطورتها على إسبانيا أولا، وعلى
محيطها الإقليمي ثانيا. لذلك، كل التوقعات ترجّح استمرارَ مدريد في رفضها المطلق منطقَ
الانفصال، والتصدي له بكل الوسائل، وفي مقدمتها الوسائل الدستورية والقانونية. وبالمقابل،
لن تلين إرادة دعاة الانفصال من الكتالونيين، ولن تفتُر عزيمتهم في التمسك بمطلب
الاستقلال، وتأسيس كيان خاص بهم.. لذلك نحن في الواقع أمام إرادتين متباعدتين إلى
حد التنافر: إرادة الدفاع عن الوحدة الوطنية يإسم الدستور، والقوانين المرعية،
وإرادة المناداة بالاستقلال، باسم حق الناس في تقرير مصيرهم.. وبين حدّي الإرادتين
يبقى المستقبل غير واضح بما يكفي، بل تظل وقائعه الراهنة، وما قد يستجد في
المستقبل، محيّرة، ومقلقة، ومفتوحة على كل التوقعات.
صحيح أن النزعة الاستقلالية
لدى كتالونيا لم تلق تجاوبا يُذكر في المحيط الأوروبي والدولي، بل واجهت ردود فعل
معارضة، ومعادية أحيانا، وهو أمر قابل للتفسير بما يكفي من الوضوح. فعلى الصعيد الإقليمي
يعني نجاح مشروع استقلال كتالونيا الكثير والكثير لأوروبا، حيث تنطوي على نزعات
انفصال نائمة كثيرة، ومن شأن تحقق التجربة الكتالونية أن يفتح الباب واسعا أمام
دعوات انفصالية متعددة، كما أن انفصال كتالونيا، لما لها من وزن في ميزان قوة
إسبانيا، سيُضعف هذا البلد، ويحوله إلى كيان هشّ، وهو ما لا تقبله منظومة البلدان
الأوروبية، ولا تشجع عليه الكثير من دول العالم، ناهيك عن أن اسبانيا التي أوقفت
حركيتها الاقتصادية الأزمة المالية الأخيرة (2008)، سيُضاعف الانفصال،
وتحديدا انفصال كتالونيا، أزمتها الاقتصادية، ويعمق عجزها عن النهوض من جديد. لهذه
الاعتبارات مجتمعة كانت مدريد منذ البداية قاطعة وصارمة في موقفها، كما كانت واعية
أن التهاون مع الانفصال تحت أية ذريعة يكون الضربة القاضية لأرصدة قوتها.
كل الاحتمالات ممكنة، بما فيها احتمال اندلاع حرب أهلية، محدودة أو طويلة الأمد
أما من جانب دعاة الانفصال في كتالونيا، فالتوق إلى
الاستقلال، وبناء دولة كتالونيا التاريخية؛ سيزداد حدة، وسيزداد منسوب المناداة به،
بفعل الشعور بالحرمان، والمنع، والإقصاء، وربما قد يتخذ أشكالا جديدة للتعبير
عنه.. فرئيس حكومة كتالونيا، كارلس بوغديمونت، دعا مباشرة بعد الإعلان عن تفعيل
الفقرة الأولى من المادة 155 من دستور 1978، إلى ممارسة "العصيان المدني
السلمي"، مما يعني الدخول في معارضة ديمقراطية مع الحكومة المركزية، لا يعرف
أحد نتائجها المنظورة وغير المنظورة. لكن من غير المؤكد، في سياق موسوم بالتوتر
كما هو حال اسبانيا اليوم، أن العصيان المدني سيبقى سلميا، ولن يحيد عن طريقه..
إن كل الاحتمالات ممكنة، بما فيها احتمال اندلاع حرب أهلية، محدودة أو طويلة الأمد.. وهذا ما ستكون له بدوره نتائج وخيمة على إسبانيا قاطبة. لذلك، تُجمع كل التحليلات والتقارير على أن أزمة إقليم كتالونيا من أندر الأزمات في تاريخ اسبانيا الحديث، وأن الحكمة تتطلب من كل الإسبانيين الاجتهاد الخلاق في تيسير سبُل الحل أو الحلول بأقل الخسائر.
هل "دافعت" مؤاشرات التنافسية عن قطر؟
الصحافة الألمانية واستفتاءات الانفصال: الكيل بمكيالين
مسعود برزاني والخطأ التاريخي القاتل