أمس، تذكر إعلاميان عربيان هما فراس أبو هلال وفيصل قاسم؛ تذكرتين، لعل الذكرى تنفع المؤمنين. تذكر الأول شخصية ستيفنسون، في فيلم "جانغو الحر"، وفيه: "استطاع مخرج الفلم أن يولد شعورا بالاحتقار، ورغبة جامحة في الانتقام من "ستيفن" لدى كل من يشاهد الفيلم. وتذّكر الثاني شخصية سيرينا أهاروني في مسلسل رأفت الهجان، وخلص إلى أن النقد لا يعني أنك عميل وخائن. الذوبان في القائد أو القطيع، وجه آخر للسفنسة. وبين التذكرتين صلة رحم ومعنى.
سأحاول مجاهدا، صابرا، محتسبا، أن أبيّن للذين آمنوا؛ ما هي "متلازمة الستيفنسونية"، ثم أُظهر بالأشعة غير السينية، وشائج القربى بينها وبين السيسية والدحلانية والخلفانية والمدخلية والبرهامية و.. خذ نفس.
قرأتُ مرة تقريرا مبكرا، يجيب عن سؤال: هل يوجد شبيحة في
سوريا من السنّة؟
فجاء الجواب، وقد صار لدينا الكثيرون من الشبيحة: بل هم كتائب الآن، بعد سنوات التعفن الثوري. الشبيحة بدأت عصبة طائفية مغلقة، وحتى يرتقي السنّي إلى رتبة شبيح، ويعتنق عقيدة التشبيح ويقبل في "السلك"؛ يجب أن يبدي الكثير من النذالة والوضاعة والخسة، البرهان يقتضي القتل بدم بارد. وقد فعلها مجرمون، وأظهروا هذه الموهبة، فقيل لهم: العمى، فعلا إنكم أنذال وسفلة أكثر منا. وتروى طرائف قديمة عن الشيطان وصعقته من شياطين أنس، غلبوه في الخسّة والمكر والخيانة، فقدم استقالته.
فيلم "جانغو الحر"؛ فيلم ممتع، وحاز على إعجاب النقاد والمشاهدين، وله تقويم جيد.. فيلم كاوبوي أمريكي من كتابة وإخراج كوينتن تارانتينو. صدر الفيلم في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2012 في أمريكا الشمالية.
تقع أحداثه في الجنوب الأمريكي، في حقبة ما قبل الحرب الأهلية الأمريكية. الفيلم يتقصى مغامرة أحد العبيد المحررين (فوكس) وهو يعبر أمريكا مع صائد جوائز (والتز)؛ في مهمة لينقذ زوجته (واشنطن) من إقطاعي وحشي ذي شخصية كاريزمية (دي كابريو).
تلقّى الفيلم ذو النهاية الاحتفالية؛ إشادة عالمية من النقاد، ورُشح لخمس جوائز أوسكار، من ضمنها أفضل فيلم، وأفضل ممثل مساعد لكريستوف والتز، وأفضل سيناريو أصلي لكوينتن تارانتينو. في الحفل السبعين لجوائز الغولدن غلوب ربح والتز جائزة الغولدن غلوب لأفضل ممثل مساعد، وربح تارانتينو جائزة الغولدن غلوب لأفضل سيناريو. فاز الفيلم بجائزتي أوسكار. وقد تكون أهم شخصية في الفيلم هي شخصية ستيفن، وهو زنجي أسود، يعمل رئيسا للخدم العبيد، ويظهر إخلاصا نادرا لسيده.
السيد كالفن يشرح للضيفين، شولتز وجانغو، اللذين قدما متنكرين بصفة تجار عبيد، معنى الإخلاص، وكان كالفن قد علم من عبده ستيفنسون الخبيث، أنهما متنكران، فيحضر جمجمة "زنجي"، وينشرها بالمنشار، ويوضح لهم لمَ لا يقوم عبد أسود بقتل سيده، وهو يحلق لحيته، ويظل مخلصا له. ويبيّن أن سبب ذلك هو التكوين العبودي الوراثي.
ستيفنسون رجل يحظى بمثابة لدى السيد الأبيض، حصّلها بالإخلاص التام المطلق، أو ما بعده، ويمتاز بخبث ودهاء، هو خبث الضحية وخبرتها، ويعاند بشدة نيل الأسود جانغو حريته، ويستنكر أسود غيره يجلس بين البيض، فذلك ينتقص من مكانته، وهو يجهد لإثبات إخلاصه للأبيض ووفائه له، وفاء أكثر من وفاء الكلب.
وفي الفيلم لحظات مهدورة، تمنيت لو نفذت بطريقة أخرى. ومن أجمل مشاهد الفيلم؛ المشهد الذي يقرر فيها صائد الجوائز الاستشهاد، وكان بمقدوره الفوز بالصفقة بمصافحة يد كالفن القذرة، لكنه يختار البطولة، فيخرج مسدسا صغيرا من كمه ويقول لجانغو ، وهو يسدد الطلقة إلى قلب كالفن، أجمل جملة في الفيلم: آسف لم استطع المقاومة.
أشباه ستيفنسون ونسخه أكثر من أشباه سهيل الحسن، ولن تكفينا أصابع حشرة أم أربعين وأربعين لإحصاء هؤلاء الأشباه، وهم ملوك دول عربية، أو على وشك تولي رئاستها، ويتسابقون لخدمة كالفن البيت الأبيض.
تعالوا نبحث عن بعض الأشباه، ونمنحهم أوسمة أوسكار الستفينسونية ونياشينها:
يسلم حافظ أسد الأمانة مرغما، فكل نفس ذائقة الموت، ولو كان بمقدروه لخانها، كما خان كل الأمانات، فيعلن ورثته موته بعد أسبوع من المماطلة ومعاندة القدر. ونرى ذلك المشهد الفريد، مشهد النواح الكوميدي في مجلس الشعب السوري، مشهد عضو مجلس الشعب دياب الماشي، وهو يلطم، ويبكي، وأخو حافظ الأسد إسماعيل الأسد جالس مبتسم ملء عيونه عن شواردها، واللطم والنياح مكروه، وسبّة لدى العرب، وهو من شيم النساء، وهو لدى شيوخهم أنكر، لكن صاحبنا، ورئيس مجلس الشعب، ومروان شيخو "استفنسوا"، فأغشيناهم فهم لا يبصرون. وهو ما حوّل مشهد موت الرئيس على الأبد، إلى كوميديا. إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
مفتي سوريا أحمد حسون اجتهد واستبسل في السفنسة، فتحرش بالروهينغيا المساكين، فاتهمهم بالارهاب، ومؤسسات العالم الإنسانية كلها، المسيحية والهندوسية، ومنظمات حقوق الإنسان، والقس توتو، تعاطفت مع مأساتهم، وإنْ إعلاميا. أدان عاقد نكاح جورج وسوف، ومحكم مسابقات ملكات الجمال، هؤلاء المساكين الذين ليس أسلحة لديهم سوى العصي والمناجل، ويعيشون في العشش، ويعبرون السبخات وهم يحملون أولادهم على رؤوسهم، ويموتون في الطريق حرقا ووهم أحياء. فقال ما قال تقربا إلى سيده العلوي، كي يبرهن أنه مخلص، وأنه غيّر جلده.
رأينا كندة الشماط، وزيرة الشؤون الاجتماعية في حضن سهيل الحسن، فرأينا ملصقا لفيلم كوميدي، أرادت أن تقول: أنا محجبة وأعانق شبيحكم، ومخلصة لكم. ويمكن العودة إلى تصريحات قديمة لخدام، ونجاح العطار، وحتى البوطي، تبين درجات متفاوتة من السفنسة. كان فاروق الشرع في مذكراته يسخر من القرآن حينا، ويذكر مديح الأسد له حينا. وزميله عبد الحليم خدام الجامع، حذف الجامع من اسمه للبرهان على حُسن السفنسة، فصار خدام.. القصر.
أما السيسي ودحلان وبن زايد، فهم متفوقون، ومعلمون، في هذا المضمار:
السيسي يؤدي دور "الزنجي" الوفي، فنراه خاشعا في حضور الرجل الأبيض، غير مصدق أنه واقف مع القيصر بوتين، يداه معقودتان على بطنه، وكأنه يصلي صلاة الاستسقاء، على خديه خفر التلميذ عندما يناديه المدير، ليطلب منه إحضار الطباشير من المكتبة المجاورة، ويضحك مع ترامب، وهو يمدح أقل شيء فيه، جزمته. أمس قال بلغته الركيكة، وهو الفيلسوف، بحضور الرئيس الفرنسي سليل الثورة الفرنسية: إن مصر ليست مثل أوربا المتقدمة فكريا وعلميا، وإن مصر بحاجة إلى تعليم جيد، وصحة جيدة، قبل أن تحتاج إلى حقوق الإنسان. قال لهم: إنه أسود، وليس الأسود كالأبيض، وهذا ما يسعد "البيضان"، لقد ولوه هذا المنصب لأسباب كثيرة، هذه أحدها. لم تتحمل طبقة الباشوات المصرية "السوداء" تولي جانغو "أسود" مثلهم منصب الرئاسة، فحاربوه بكل الأسلحة.
لابن زايد "يدٌ بيضاء" في كل الانقلابات في العالم الإسلامي. لم يثبت أن له يدا في برشلونة وكتالونيا، ولله الحمد والمنة! أمس قرأنا في تقارير إنه وراء التزوير في الانتخابات الأمريكية، وينوي شراء جزيرة سقطرى، وقرأنا عن نوايا لشراء كوكب المريخ، والأغلب أنه وراء قتل الأئمة في اليمن، وكان يموّل انقلاب مصر مع ابن سلمان، وهو من وقف وراء انقلاب تركيا، كله أو بعضا منه، ويمول 33 منظمة تعادي المسلمين. إنه يقول للسادة البيض: انظروا، أنا زنجي مخلص، لا أريد مسلما أو عربيا غيري يخدكم، أنا عبد ليس كمثلي، انظروا أنا أشبهكم، إرم ذات العماد صارت غربية تماما: دعارة وقمار وعولمة وعلمانية، ما رأينا مثلها في بلاد أحد من العالمين.
دحلان يقود المخانعة الفلسطينية، وأبو مازن، الذي كان يصف حماس بكفار قريش، يحاول منافسته، وابن سلمان أمس بدأ حملة تطهير للفساد في ليلة "الأحد"، وترد تقارير كثيرة في صحف رصينة؛ تظهر نواياه بعلمنة السعودية بالمقلوب، ويطمع في تحديث المملكة، ليس سياسيا، وإنما دينيا. الستيفسونية هي أكبر عاصفة تجتاح العالم الإسلامي، والأسد أبا وابنا وخالا وابن خال؛ دمروا سوريا تدميرا، وهم يبحثون عن الطريق إلى قلب كالفن.
لم تسفعني معرفتي في الاستشهاد بمثال من الأثر الإسلامي والمرويات العربية، يقارب السفنسة، لم أجد سوى أمثلة لا تصلح لها. حاولت تنميط السفنسة في هذا المقال، وتسمتيها بمتلازمة الستيفنسونية، وجدت في المرويات أمثلة دون ذلك؛ مثل بلعام بن باعوراء، وأمية بن أبي الصلت، وأبو رغال، وهي أمثله ناقصة، تصلح مثالا للخيانة، أو للضعف، أو الغرور. ونجد في حكايات عالم الحيوان والأمثال كثيرا من الستفينسونية، مثل حكاية الغراب، الذي نسي مشيته، وهو يقلد الحمامة.
السفنسة هي مرحلة ما بعد العبودية، ما تحتها.
في ستفنسونات الثقافة: نجد أدونيس، الذي غير اسمه من علي أسبر سعيد؛ إلى اسم إغريقي تقربا وزلفى إلى سيده كالفن. وسلمان رشدي، الذي جعله صادق جلال العظم معيارا لقياس حرية الرأي، وبيان خط الحداثة الأبيض من خيط القدامة الأسود. وكانت ملكة بريطانيا قد منحته وسام "سير" على عدائه للإسلام والمسلمين.
وتجري عملية "سفنسه" على قدم وساق ؛ لابن رشد، وأخرى معاكسة وتدعيشية لابن تيمية.
هذه أسماء أخرى متفوقة في فن السفنسة: تسليمة نسرين، وهند عياري، ويوسف زيدان، والبرهامي.. حماس كانت آخر قلاع المقاومة، وقد رأت أن تنحني للعاصفة، و فضلت الركوع لإيران، على أن تسجد لكالفن كاندي، تجنبا للسفنسة.
وهناك شخصيات فيها رمق، أو بعض من الحياة، فالحمّى قوية، ومعدية، ولا يصمد لها إلا أولو العزم، وبشّر الصابرين.