لنبدأ من هذا الخبر على موقع إذاعة "موزاييك أف أم" الخاصة: "عمد عدد من الأمنيين المحتجين أمام مجلس نوّاب الشعب الأربعاء (8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017)؛ إلى تجاوز الإجراءات التنظيمية، وتوجهوا إلى باب البرلمان المقابل لساحة باردو، في حركة تصعيدية وتشنّج كبير، رافعين عديد الشعارات ضدّ النوّاب والبرلمان".
ففي وقت أصبح فيه الإعلام يحتل مركز الشأن العام (وليس السياسة)، كما قال أحد علماء الاجتماع، قد لا نكون محتاجين إلى التذكير بالاستراتيجيات "المشبوهة" والسياقات"الهشة" التي كانت وراء ظهور النقابات الأمنية، بل قد لا نكون مضطرين إلى التذكير بأي شكل من أشكال التمرد الأمني منذ حكومة الباجي قائد السبسي الأولى، مرورا بحكومة الترويكا، وانتهاء بحكومتي الحبيب الصيد ومن بعده يوسف الشاهد، إذ يمكننا الاكتفاء بمقاربة مسألة "تغوّل" المؤسسة الأمنية؛ انطلاقا من صياغة موزاييك (وهي أحد الأذرع الإعلامية لنظام بن علي وورثته من بعده) للخبر الوارد أعلاه.
تعاطف لا تخفيه أغلب المنابر الإعلامية، على عكس مواقفها "النقدية" الحادة من مطالب النقابات القطاعية ومن احتجاجات المعطلين عن العمل، وتحركات المناطق المهمشة
يبدو الخبر، كما يصوغه موقع إذاعة موزاييك، وكأنه يتعلق بعمل "نضالي" أو "احتجاجي" مشروع انحرف قليلا عن غاياته "المشروعة". ولكن هذا الانحراف لا يمكنه أن يلغيَ التعاطف أو التفهم اللامشروطين لمطالب الأمنيين ونقاباتهم. إنه تعاطف لا تخفيه أغلب المنابر الإعلامية الخاصة والعامة، على عكس مواقفها "النقدية" الحادة من مطالب
النقابات القطاعية ومن احتجاجات المعطلين عن العمل، وتحركات المناطق المهمشة والمحرومة من حضور الدولة؛ إلا في أشكاله
القمعية.
لفهم سطوة المؤسسة الأمنية وعلاقاتها الملتبسة بالمشرفين على تشكيل الرأي العام وتوجيهه، علينا ألاّ ننسى أنّ النقابات بصورة عامة قد تمتعت في خطابات الإعلام المدجن بعد الثورة بمعاملة تفضيلية (سواء أكان الإعلام عموميا أم خاصا)، وهي معاملة كان يتمتع بها الاتحاد العام
التونسي للشغل - وإضراباته العامة والقطاعية التي فاقت بمئات المرات كل تحركاته منذ تأسيسيه - خلال حكم الترويكا تحديدا، ولكنها سرعان ما تغيرت بعد وصول نداء تونس إلى الحكم، لينحصر التعاطف بصورة تكاد مطلقة في النقابات الحاملة للسلاح دون غيرها. لكن هل نحن فعلا أمام تحول في "الخط التحريري" لأغلب المنابر الإعلامية؟ أم إننا أمام لحظتين مختلفتين للمنطق ذاته؟
لمّا كان "تغول" النقابات الأمنية جزءا من سيرورة كاملة يمكن إدراجها ضمن استراتيجيات الثورة المضادة، ولمّا كان ذلك التغوّل هو مظهر من مظاهر الأزمة البنيوية للعقل السياسي الذي أدار الثورة - بقصد أو بدون قصد - بعقل أعدائها ولخدمة مصالحهم المادية والرمزية، قد يكون علينا ربط المظاهر/ الكيانات الأمنية "اللاوظيفية" - سواء بمعيار الثورة أو بمعياري الدستور والقانون - بمقدماتها وأسبابها العميقة التي لا تتموضع بالضرورة في المؤسسة الأمنية ذاتها.
فهل كان باستطاعة المنظومة الحاكمة قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011 أن تتجاوز الخطر الوجودي الذي كاد يعصف بها لولا دعم الاتحاد التونسي للشغل، حيث تحوّل أغلب رموز الفساد إلى نقابيين ومناضلين "ديمقراطيين"، وحيث شيطن النقابيون المتمتعون بالعفو التشريعي العام من ضحايا المخلوع ونظامه الشيو- تجمعي؟ وهل كانت ستنجح في فرض منطق استمرارية الدولة ومنع مأسسة الثورة لولا دعم "العائلة الديمقراطية" (أي اليسار الفرانكفوني الوظيفي) ومن بعدها حركة النهضة (أي الإسلام التوافقي الوظيفي)؟ وهل كانت النواة الصلبة للمركب الجهوي- المالي- الأمني ستنجح في الدفع بممثليها إلى واجهة السلطتين التنفيذية والتشريعية لولا الصراعات الهووية بين الإسلاميين واليساريين؟ بل لولا قابلية هؤلاء جميعا للتدجين والاستلحاق؟
احتاجت المنظومة الحاكمة قبل الثورة إلى تحييد استحقاقات تلك الثورة، ومنع أي قطيعة جذرية قد تمنع عودتهم إلى السلطة، ولذلك احتاجت إلى منع "العزل السياسي"
في الأيام الأولى للثورة، احتاجت المنظومة الحاكمة قبل الثورة؛ إلى تحييد أكبر قدر ممكن من استحقاقات تلك الثورة، ومنع أي قطيعة جذرية قد تمنع عودتهم إلى السلطة، ولذلك احتاجت تلك المنظومة في لحظة أولى إلى منع "العزل السياسي"، ثم إلى ترسيخ حضورها باعتبارها جزءا من "العائلة الديمقراطية" المدافعة عن "النمط المجتمعي التونسي" ضد مخاطر "الظلاميين" و"الرجعيين"، أي واقعيا ضد نتائج الانتخابات التأسيسية، وضد أي انكسار لبنية الحقل السياسي"العلمانوي" الموروث عن نظام المخلوع ولجان تفكيره "الاستئصالية".
في تلك اللحظة، لم تكن المنظومة تحتاج إلى أكثر من بناء النقابات الأمنية وتوظيفها "جزئيا" ضد حكم الترويكا، وضد أي مسعى حقيقي لإصلاح العقيدة/ المنظومة الأمنية بدعوى ضرب "الأمن الموازي" ومحاولات "أخونة الدولة"، ولكنها كانت تحتاج إلى دعم الاتحاد العام التونسي للشغل بصورة مطلقة وغير مشروطة، وهي حاجة انتفت الآن بصورة كبيرة بحكم احتياج المنظومة إلى إضعاف الاتحاد لتمرير إملاءات الجهات المانحة وشيطنة أي تحرك اجتماعي، وهو ما يعني المرور إلى اللحظة النظامية الثانية: إضعاف الاتحاد والانقلاب على حرية التنظم، والتذرع بتمرير
قانون زجر الاعتداء على القوات الأمنية تحت غطاء مقاومة الإرهاب وبمباركة أغلب النخب الإعلامية والسياسية والثقافية؛ تلك النخب "اللاوظيفية" التي هي أقرب إلى صورة "بوليس سياسي" منها إلى صورة المثقف المنحاز إلى الحقيقة (معرفيا) وإلى المظلومين (اجتماعيا).
قد يكون أكبر نجاح للمؤسسة الأمنية (ولمن يقف وراء تعيين قياداتها على أساس إيديولوجي أو جهوي أو زبوني)؛ هو أنها قد جعلت أغلب المهتمين بالشأن العام يقاربون "تغوّل" النقابات الأمنية، وكأنه نوع من "التمرد" على القيادات الأمنية أو النخبة السياسية التي تدعمها. ولا شك أن هذا الطرح يُخفف كثيرا من الضغط المسلّط على "النظام"؛ لأنه يظهره - في أسوأ الحالات - في صورة الضحية للإضعاف الممنهج للدولة، لا في صورة "الشريك" أو حتى المخطط لذلك "الاستضعاف" في أغلب صوره، بما فيها صورة التمرد النقابي الأمني. والحقيقة الأقرب إلى منطق اشتغال السلطة، والذي لم يتغير عما كان عليه زمن المخلوع ابن علي إلا صوريا، هو أنّ النقابات الأمنية ليست إلا الجناح الثاني للمنظومة الأمنية، أو لنقل إنها المتحدث باسم الإدارة واحتياجات المنظومة الحاكمة ككل.
يكفي أن ننظر في مشروع القانون لنقف على الحقيقة التالية: التجاوزات الفردية التي قد يوجدها المشروع هي من وجهة نظر النظام ثمن معقول لتحصين المؤسسة الأمنية
رغم أنّ الأمنيين قد يتمتعون - إن مرّ هذا المشروع في صيغته الحالية - بـ"حصانة" (وليس بحماية فقط)، ورغم أنّ المشروع هو في بعض معانيه شرعنة أو تقنين لتجاوزات فردية ممكنة، فإن كل ذلك هو ثمن معقول - من وجهة نظر المنظومة - لتمرير قانون يضرب أي تحرك احتجاجي، ويمنع أية مساءلة أوانتقاد لأداء المؤسسة الأمنية وكأنها "ذات مقدسة". ويكفي أن ننظر في مشروع زجر القوات الأمنية لنقف على الحقيقة التالية: التجاوزات الفردية التي قد يوجدها المشروع هي من وجهة نظر النظام ثمن معقول لتحصين المؤسسة الأمنية، وتثبيت أسس المنظومة الجهوية-المالية- الأمنية الحاكمة بخياراتها اللاوطنية المعلومة. ولا شك في أن العقل الذي كتب المشروع كان مشدودا إلى منطق النظام في سعيه إلى تجاوز مظاهر الخلل في اشتغال أجهزتة القمعية (الأمنية منها والإيديولوجية)، أكثر مما هو مشدود إلى منطق الأمن الجمهوري أو استحقاقات الثورة، أو حتى مرجعية الدستور.
ختاما، يمكننا أن نقول إن تغوّل المؤسسة الأمنية (لأن النقابات هي وجه ذلك التغول وليست علته أو سببه العميق) يعكس أزمة بنيوية تخترق المجتمع التونسي برمته. فالنقابات الأمنية، بجميع تصرفاتها التي تقترب من التمرد، وبكل وجوه ابتزازها تحت غطاء مقاومة الإرهاب، لم تخرج عن منطق الاحتجاج النقابي في سائر القطاعات الأخرى، كما أن تعامل النخب الإعلامية والسياسية والثقافية مع هذا الواقع هو مظهر من مظاهر "اللاوظيفية" التي تعكس ارتباطا مرضيا بجمهورية الاستبداد؛ أكثر مما تعكس اندراجا واعيا ومبدئيا في مشروع المواطنة. وقد يكون على الأغلب الأعم ممن يعارضون مشروع زجر القوات الأمنية أن يبحثوا عن دورهم الحقيقي في ما آل إليه الوضع، وأن يبحثوا قبل ذلك في أعماقهم عن ذلك "النقابي الأمني" أو ذلك "البوليس السياسي" الذي ما زال يُشكل عقلهم السياسي ويحدد سقف "ديمقراطيتهم" الصورية، وإن ظنوا أنهم قد تخلصوا من سلطته/ فتنته اللاواعية.