واعجبا لأنصار الشرعية هؤلاء! ما أشد تناقضهم! وما أبعد الشقَّة بين ما يعتقدون في نفوسهم وما يمارسون في واقعهم! فلولا أنَّنا على يقين من أنهم إنِّما ينطلقون من رغبة صادقة في مزاحمة الانقلاب ومراغمته، لظننا أنهم كتيبة من كتائبه وفصيل من فصائله، ولو أنَّنا لم نعرف من أحوالهم إلا تلك المواقف العجيبة والتصريحات الغريبة، لما ساورنا شك في انعدام الفرق بينهم وبين "الانقلابيين" الأقحاح.
وإذا كانت مواقفهم وتصريحاتهم عجيبة، فإنَّ تبريراتهم أشد عجبا وغرابة. فتارة يقولون إنَّ من الواجب علينا المشاركة في انتخابات الرئاسة لئلا ينفرد بالمشهد المستبدون و"الكومبارس" المشرعنون للمستبدين، وتارة يقولون إنَّ المشاركة إنَّما تهدف إلى فضح النظام وتعريته وكشف سوءاته، وتارة يبررون بما هو أبعد من هذا وذاك؛ شططا مما لا داعي لإثارة الخجل بذكره، وربما ساقوا بعض ما يمكن أن ينكره عليهم المتابعون من مفاسد المشاركة، ثم ضربوا الذكر عنه صفحا بدون سبب معقول أو مبرر مقبول.
الخلل ليس في مبدأ العمل بالمصلحة؛ فأغلب الممارسات السياسية مبناها على الموازنة بين المصالح والمفاسد، لكنّ الخلل في اختلال الرؤية
الشرعية الجوهرة النفيسة والدرة المكنونة التي لا يدرك قيمتها إلا من يعي قيمة الإرادة الشعبية، وقيمة الثورة ومكتسباتها، وقيمة الشرع ومعطياته
أجل .. الشرعية؛ تلك الجوهرة النفيسة والدرة المكنونة التي لا يدرك قيمتها إلا من يعي قيمة الإرادة الشعبية، وقيمة الثورة ومكتسباتها، وقيمة الشرع ومعطياته. إنَّ هذه الشرعية هي الحسنة الوحيدة في تاريخ مصر من لدن ما قبل محمد علي إلى يومنا هذا.. إنَّها الوحيدة التي وقعت للمصرين في التاريخ الحديث كله.. إنَّها قيمة أعلى من الرئيس في شخصه رغم علو قدره، وأثمن من البرلمان والدستور رغم أنَّهما - بالقياس على السابق واللاحق - ثمينان ماجدان، وما لم تنسخ بشرعية أخرى حقيقية - وهذا ما لم يكن ولن يكون - فهي قائمة، وعلى صدور أهل الاستبداد والفساد جاثمة.
ثم إنَّه ليس بالتأرجح بين الخيارات المتباينة يستقيم المسار وتدنو الغاية، فإمَّا سياسة ومعارضة سياسية تعترف بالوضع القائم وبشرعيته، وتبني على ذلك استراتيجيات تندمج من خلالها المعارضة في النظام الدوليّ، وإمَّا ثورة يخطط لها الكبار بمشاركة الثوار ومشاورة الأحرار؛ بما يستلزمه ذلك من المفاصلة التامَّة مع النظام، وعدم الالتفات إلى اعتراف النظام الدوليّ أو عدم اعترافه. أمَّا هذه الأرجحة؛ فلا ثمرة منها إلا تبديد الجهود وتمييع المواقف وتضييع معالم القضية والتلبيس على الشعوب.
ليس بالتأرجح بين الخيارات المتباينة يستقيم المسار وتدنو الغاية، فإمَّا سياسة ومعارضة سياسية تعترف بالوضع القائم وبشرعيته، وإمَّا ثورة
قد تقول إنّه لا بد للثورة من سياسة، وأقول: أجل، لا بد لها من سياسة، ولكن سياسة تحظى بالاستقلال ولا تدخل تحت الاستحواذ والسيطرة.. سياسة ثورة لا سياسة نظام.. سياسة إنشاء وبناء لا سياسة ترميم، والسياسة أوسع بكثير من الممارسة السياسية في موقع المعارضة المركبة في جسم نظام قائم على نحو من الأنحاء.
أقول هذا وأنا على يقين من صدق النوايا ونقاء الدوافع، لكنه النصح الذي أُمِرنا به ونُدِبنا إليه: "الدين النصيحة".
العدو الاستراتيجي لا يزال في فلسطين
مصر.. أحلام المشاركة وأوهام المقاطعة
من شبه الدولة نمضي إلى اللا دولة.. "الحصاد السيساوي"