بعد ما آلت إليه أحداث الربيع العربي من نهايات كارثية محزنة في أكثر من دولة عربية، توسعت دائرة التشكيك في دوافع وحيثيات اشتعال الثورات العربية، في اتجاه ينحو منحى تجريد الربيع العربي من فاعلية الحراك الشعبي بعفويته، واعتباره حلقة تمهيدية في مخطط مدروس يجري تنفيذه على أرض الواقع بعناية.
ووفقا للمشككين في طبيعة الربيع العربي وأسباب حدوثه، فإن مسار الأحداث بعد تمكن الثورات المضادة من إجهاض الربيع العربي تشير إلى إعادة إنتاج "السلطوية العربية" بنسختها الأشد قمعا من جهة، وتهيئة المنطقة لترتيبات وتدابير سياسية جديدة يكون المستفيد الأول فيها دولة الكيان الصهيوني في فلسطين.
في هذا السياق لم يتقبل أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية الأردنية، جمال الشلبي فكرة براءة الربيع العربي، لأن غالب المقدمات والنتائج تشير إلى أن ما وصف بالثورات والربيع لم يكن في حقيقته إلا الحلقة الأولى في مخطط تتابع حلقاته عبر الأحداث الكارثية التي تدور رحاها على الجغرافيا العربية هنا وهناك.
وجوابا عن سؤال "عربي21" حول وجاهة الأسباب الدافعة للشعوب العربية للقيام بثورات تحررها من قبضة الاستبداد والأنظمة الديكتاتورية، وتسترد بها حقوقها المهدورة، دافع الشلبي عن حق الشعوب العربية في ذلك، مضيفا "لكن تلك الثورات في سياقها الذي نعرفه جميعا لم تكن حراكا شعبيا بريئا، وإن تراءى ذلك لكل المتشوقين إلى الحرية والكرامة والحياة الكريمة".
ورأى الشلبي أن مسار الأحداث بعد الربيع العربي، يتوافق تماما مع ما أسمته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندليزا رايس سنة 2005 "بالفوضى الخلاقة"، وهو مخطط يسعى لإحداث اضطرابات وقلاقل في المنطقة، بغية إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية بما يخدم المصالح الأمركية، الإسرائيلية في الشرق الأوسط، فهي فوضى بالنسبة لعالمنا العربي، وخلاقة بالنسبة لهم، وهو ما يجري تنفيذه حاليا في المنطقة.
وتساءل الشلبي: ما هذه الثورات التي لا تملك من أمرها شيئا، وجعلت دولها مسرحا لكل القوى الإقليمية والدولية تتلاعب بها كما تشاء؟ وما هذا الربيع الذي جلب معه الدمار والقتل والتشريد، وأنهك البلاد والعباد، وأشاع الفوضى، وفكك دول عربية قوية ومركزية؟
في المقابل وصف الناشط الحقوقي المصري، خالد أبو زيد ثورات الربيع العربي بأنها "لم تكن إلا نتيجة لتردي الأوضاع السياسية والاقتصادية في ظل الأنظمة السابقة، فقد فقدت الشعوب ثقتها بالأنظمة نتيجة انتشار الفساد واشتداد الاستبداد، وشيوع الظلم، وغياب العدالة، وهو ما دفع الشعوب، خاصة الشباب للوقوف على أطراف أصابعها للبحث عن مخرج".
ودافع أبو زيد في حديثه لـ"عربي21" عن الثورات العربية، موجها حديثه للمشككين فيها بأنه "لا يستطيع أحد منهم أن يعطينا دليلا واحدا يثبت به أن الشعوب تحركت وفق مؤامرة أو خطة تمكن واضعها من إيجاد ترتيبات لإعادة ترتيب البيت العربي، فحركة الشعوب لا يمكن أن يتنبأ بها أحد حتى يغامر في تحريكها، لأنه لا يستطيع التحكم أبدا في مساراتها بعد ذلك" على حد قوله.
ووفقا للناشط الحقوقي المصري أبو زيد فإن "السؤال المطروح بإلحاح على كل من يشكك في بواعث الربيع العربي ودوافعه هو: كيف تغامر الدول الغربية ومعهم الصهاينة بالتعويل على حركة الشعوب وهي تملك زمام الأمور في العالم العربي، وتمتلك مفاتيح السلطة داخله؟
وتابع حديثه واصفا "الزعامات العربية وجيوش جميع الدول العربية بأنها دوما رهن إشارتهما، فلو أراد الغرب حراكا (مضبوطا) لجعلوه من خلال الجيوش كما فعلوا من قبل أيام عبد الناصر والأسد والقذافي وسائر الانقلابات التي حدثت على عين الغرب، وتم تسميتها بالثورات فيما بعد، وأصبح قادتها ألعوبة بيد الغرب والصهاينة".
واعتبر أبو زيد أن "ما آلت إليه الثورات العربية هو بفعل الغرب الذي امتص الصدمة سريعا، وبدأ بالتخطيط لإنهاء الثورات بشكل دموي حتى يستطيع إعادة ترتيب العالم العربي قبل أن تفيق الشعوب من صدمة الموت والخراب الذي حل بها، لا بفعل الربيع العربي ولكن بفعل المؤامرات المزدوجة من الداخل والخارج".
من جهته أثار الباحث الإسلامي، إبراهيم العسعس جملة من التساؤلات القلقة بشأن أحداث وحيثيات وقعت في بداية الثورات العربية، ففي تونس رفع الجيش يده عن الرئيس بن علي، أليس في هذا غرابة؟! بحسب تساؤله.
وأضاف في مقال له "في مصر: رفع الجيش يده عن مبارك! أليس هذا غريبا؟!. في ليبيا: قاتل الناتو مع الثورة! وشارك استخباراتيا معها، وساهم في تعطيل بطاريات الصواريخ، متسائلا: أليس هذا غريبا؟ ومستبعدا في الوقت نفسه أن يكون ذلك من قبيل "تقاطع المصالح".
وتابع "في اليمن: الحل الذي حصل كان غريبا جدا، فنائب الرئيس تسلم مكانه! وكأن الثورة قامت من أجل صالح فقط، وليس من أجل نظام كامل، وكأن نائب الرئيس خالي الطرف عن أي مسؤولية قامت الثورة من أجلها.
ووصف العسعس ما جرى في اليمن "بالأمر الذي قد تمت (لففته) إن جاز التعبير، والأكثر غرابة أن الطاغية القاتل في نظر الغرب عولج في السعودية، وأكمل علاجه في أمريكا التي تقف مع الثورات على قدم وساق، وأعلن من هناك أنه سيعود ويخوض الانتخابات، متسائلا: أليس هذا غريبا؟!
ولفت العسعس إلى أنه في الوقت الذي يسجل فيه تلك الملاحظات، فإنه يسجل موقفه الرافض لكل الأنظمة المشار إليها، حتى لا يقول قائل: أنتم ضد الثورة ومع الطغاة، موضحا أن ما يكتبه ويقوله ما هو إلا محاولة لفهم ما جرى لتجنب المتوقع القادم.
بدوره رأى الكاتب والباحث السوري، أحمد الرمح أن الحكم على الربيع العربي وثوراته المتعثرة وهو ما زال في مخاضاته القاسية حكم جائر وقاصر، يتنافى مع منطق الثورات العالمية الكبرى التي مرت بذات المسارات الصعبة والمخاضات المؤلمة.
وأضاف لـ"عربي21": الحكم على الأحداث التاريخية الضخمة لا يتم أثناء مخاضاتها العسيرة التي تمر بها، وإنما يكون بعد الانتهاء واكتمال دوراتها، مستذكرا ما مرت بهذه الثورات العالمية كالثورة الفرنسية، والتي تعرضت لقمع ومواجهة شرسة في بداية قيامها، ثم ما لبثت أن واصلت مسيرتها الثورية حتى كتب لها النجاح".
واعتبر الرمح استغلال بعض القوى والأحزاب السياسية للربيع العربي، خاصا بالذكر حركات الإسلام السياسي، أحد أهم أسباب فشل الربيع العربي، فهي للأسف لم تكن مهيأة لقيادة تلك الثورات والحراكات الشعبية، وبسبب سوء تقديراتها وسذاجة إدارتها للصراع انجرت إلى المربع الذي تريده قوى الثورة المضادة.
وتابع الرمح حديثه في بيان أسباب فشل الربيع العربي "من يقرأ تاريخ الثورة الفرنسية، يجد أن من إرهاصات نجاحها ما جرى بين يديها من عملية الإصلاح الديني، وهو ما تحتاجه الثورات العربية بالضرورة في موجاتها القادمة، فلا بد من الإصلاح الديني الذي يعمل على تغيير بنية العقل العربي، بإشاعة ثقافة التغيير وإعداد الإنسان القادر على الاضطلاع بمهام التغيير الشاقة".