سيذكر العرب والمسلمون والمسيحيون في العالم أن رئيسا متهورا لدولة كانت
القوة العظمى الوحيدة، تجرأ على طعن القدس، وغدر بها، مستضعفا العرب في لحظات «انتصارات»
لغيرهم... راعيا تزويرَ إسرائيل التاريخ، متبرعا بمنح «شرعية» كاملة لاحتلالها القدس.
ما حصل قبل الأربعاء الأسود الذي شهد الجريمة الكاملة، واعتبره رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتانياهو «يوما مشرقا لليهود»، هو حرب نفسية بشعة شنّها سيد البيت
الأبيض على الفلسطينيين، مستضعفا إياهم، مستغلا الانقسامات التي تشرذِم العرب، والحروب
التي لا يخمد أوارها من سورية إلى ليبيا واليمن.
ما حصل قبل يوم الجريمة وما تزامن معه، أن «المنتصرين» بلغوا محطاتهم،
لم يتبادلوا الأدوار، لكل أهدافه وطموحاته «الكونية»، ولبعضهم مهارة الغدر.
لم يجد دونالد ترامب ساحة يسجل فيها «مقاربته الجديدة» لعالم ما بعد القوة
العظمى الوحيدة، سوى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. تراجع، بفضيحة، عن حافة الهاوية
في التصعيد مع كوريا الشمالية وصواريخها المشبوهة... أو حتى بغضب عارم من إيران و
«شغبها»، حتى إذا جاءت لحظة «الحقيقة» التي تأخرت كثيرا -في رؤيته «الخلّاقة»- طعنَ
القدس، وانقض على حقوق الفلسطينيين، متباهيا بتوقيعه قرار اعترافه بالمدينة «عاصمة
لإسرائيل». وتباهى وزيره ريكس تيلرسون بمهارته في إطاعة الرئيس، ليبدأ إجراءات نقل
السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
قبل ساعات، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليعلن «انتصارا كاملا» على
«داعش» في ضفتي الفرات. القيصر بات مختصّا بملف مآسي سورية وحروبها وتحالفاتها... لكل
ساحته.
قبل بوتين، تباهت إيران بـ «انتصار» محورها في المنطقة العربية، من اليمن
إلى سورية والعراق ولبنان. وحين انتفضت صنعاء، سارعت طهران إلى دور داعية السلام صباحا،
ثم راعية غدرَ الحوثي الذي يغتال كل يوم حلم اليمنيين بوقف شلال الدماء.
ليس مصادفة بداهة، أن يختار «المنتصرون» مدن العرب ليقرروا مصيرها ومصائر
«المهزومين». روسيا وإيران، وأمريكا وإسرائيل تقطف الغنائم في «مزاد» تسويات، ما زالت
فصولها طويلة.
على امتداد الخرائط العربية، دول باتت مخيمات كي يحصد المنتشون بالغدر
«جوائزهم» وقواعدهم. هُزِم إرهاب «داعش»، ولكن ما عساه الأربعاء والجريمة الكبرى أن
يكونا سوى وضع براميل البارود على فوهة بركان عمره عشرات السنين.
ما فعله ترامب أنه طعَن الضحية بسكين أبى إلا أن تكون يهودية. هو وحليفه
نتانياهو أصرا على صفة اليهودي لشعب ودول لا تحيا إلا على جثث الفلسطينيين وسرقة أراضيهم
وتزوير التاريخ بلا رادع.
القرار الأمريكي الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، تأخر كثيرا. هذا ما
نطق به الرئيس المتهور، مطالبا شباب العرب بأن يتسامحوا مع الجريمة الكاملة. والأكيد
أن محاولة اغتيال القدس والتلاعب بمصير الفلسطينيين، إذ يتجاوزان الجهل الأحمق بحقائق
يتوهم ترامب معرفتها، سيفتحان له صفحات من التاريخ:
سيُسجل أنه الوسيط الذي قرر نتيجة المفاوضات، راعيا جرائمَ الجلاد الإسرائيلي.
وأنه الرئيس الأمريكي الذي فتح أبواب الجحيم على ما بقي من الإقليم، قبل أن تطوى مآسي
سنوات «داعش» وخرابه... وزرع بذورا لعنف أكثر ضراوة، متجاهلا عواقب الأربعاء الأسود
ومقدمات الحرب الدينية، والتحذيرات العربية والأوروبية.
أبعد من واقع ملتقى الديانات في القدس، كشف الرئيس المتهور أن «مبادرته»
إلى السلام التي روّج لها طويلا، تشرّع الاحتلال وتطلق يده لفرض شروطه على الفلسطينيين...
وأولها اعترافهم بالقدس «عاصمة لإسرائيل». ببساطة، ترامب يدعوهم إلى تمجيد القاتل،
والاستغاثة به ليقتلهم كل يوم.
لم ينسَ الرئيس الأمريكي أن ينصحنا بالاعتدال و «الهدوء»، فالوضع النهائي
للقدس «رهن بالمفاوضات»! هو «يكرّم السلام» والإسرائيلي يحتفل بـ «أجمل هدية» من المتهور
«الشجاع».
أما نحن فتهمتنا وصفة جاهزة بوصمة الإرهاب لكل مَنْ يقول لا.
ترامب على لائحة «المنتصرين»، فلننصب مزيدا من الخيم. ترامب دخل التاريخ...
بالجريمة الكاملة.
الحياة اللندنية