سنظل طموحين في طلب المزيد، إذ لا تكفي تلك الجموع أن تظل فقط تصرخ في شوارعها. فلماذا لا تتوحد، وتصنع ميثاقا ثابتا لا ينتهي بانتهاء فورة الغضب الحالية التي نتمنى أن تستمر.
أجيال كبرت مع المأساة الفلسطينية، تفتش عن دور لها يمحو زمن الآباء والأجداد الذين تاهوا في مخيمات الذل، عاشوا فلسطين عن بعد، صارت حلما يصعب الاقتراب منه، صارت أغنية في الإذاعات، وصورة ناطقة في المحطات التلفزيونية، صارت وصارت وصارت، إلا العودة فلم ترتسم.
استيقظت اليوم على المشاهد ذاتها، شبان يتحركون في طول فلسطين وعرضها، ومظاهرات ستقوم بعد حين وآخر غدا وربما بعده في كل العالم، هي ليست المرة الأولى التي يصرخ فيها العالم من أجل فلسطين .. مرات ومرات ضج الصراخ فوق الأرض ثم توقف، ومرات لعلع رصاص ثم توقف، واليوم أيضا.
هو التاريخ يتكرر، الغزاة الذين مروا على منطقتنا، وجدناهم دائما في فلسطين، هدفهم الدائم بيت المقدس، تلك المدينة التي تزدحم في بال كثيرين. عندما قرر صلاح الدين الأيوبي تحريرها كان الصليبيون أو الفرنجة في تسمية لائقة، قد حولوا شوارعها إلى أنهار من دماء المدافعين عنها. ثمة من كان يعرف أنه لن يصمد بوجه هذا القادم من بلاد أوروبا من الفرنجة، ومع ذلك صمد ووقف يتلو الفاتحة على روحه قبل أن يلقى ربه.
عام 1967 احتل الإسرائيلي القدس كلها، دخلها كل قادة إسرائيل، كان وزير الدفاع موشي دايان كمن لا يصدق، لكن هؤلاء “القادة” علموا لاحقا أن قرارا أمميا جزم بانسحابهم من كل مكان احتلوه، ومرجع دبلوماسي قال لنا إن القرارات الدولية يجب أن تنفذ مهما طال الزمن، وها قد طال فمن يخرج إسرائيل من تلك الأماكن التي احتلتها غير القوة المسلحة، وكل الإسرائيليين سمعوا ذات يوم الرئيس السوري الراحل حافظ الإسد يقول لإحدى الصحف الغربية، إن الجولان سيكون كارثة للكيان الصهيوني.
أعتقد أن قادة أسرائيل ومستوطنيهم يشاهدون احتفالات النصر الجارية في العراق بالقضاء النهائي على ” داعش ”، وغدا المشهد ذاته في سوريا وفي ليبيا، ومن لبنان تم طرده إلى غير رجعة .. تلك الانتصارات بالمفرق أليست مقدمة لواقع عربي طموح نحلم جميعا بأن يتمكن من تغيير شكل المنطقة في المستقبل، وأعتقد أن إسرائيل مهما فعلت سواء ضمت الأراضي المحتلة أو صارت سيدة القدس أو حلمت بأسطوريتها من النيل إلى الفرات، فهي كيان طارئ مهما طال وقته.. ليس هنالك في التاريخ سوى سنوات انتظار ويأفل المشهد العربي على واقع جديد بلا إسرائيل.
هذه الجموع إذن تصرخ اليوم لكنها ستفعل غدا أو ذات يوم .. لن يظل الصراخ والغضب مساحة تعبير في هذا العالم العربي والإسلامي .. تلك مقدمات لفعل منتظر، إنه التخمر الضروري لما سيأتي .. سيكون انتظارنا صراخا ممهدا لما سيليه، ثمة جيل سيكون عليه الفعل وانتزاع النصر ورسم النهاية ..
التاريخ دوار، ليس دائما لمصلحة طرف، وليس له ثبات على شكل .. تلك أكذوبة لن تطول.