(1)
في ذكرى ميلاده السادس، بعد قرن من العواصف، عاد نجيب محفوظ من جديد؛ حاملا تناقضاته وتناقضات عصره، مثيرا للأسئلة العالقة في حياة العرب، وهي أسئلة دائرية مراوغة.. لا تنهزم ولا تنتصر، تختفي ولا تموت، ومن بينها سؤال: التعامل مع العدو، وإمكانية القبول به في حياة مشتركة.. ومن بينها أيضا أسئلة علاقة الماضي بالحاضر، والشك باليقين، والتردد بالحسم، والشخصي بالعام..
فقد حدث أن نشرت صفحة خاصة بسفارة العدو الإسرائيلي في القاهرة؛ نص خطاب أرسله محفوظ إلى الناقد الإسرائيلي ساسون سوميخ، المهتم بالأدب العربي، وبخاصة أدب محفوظ. ورغم انتشار الردود التي تدافع عن أديب نوبل، إلا أنني على يقين من صحة الرسالة. وكنت قد كتبت عن محفوظ والتطبيع؛ مقالا مطولا في نهايات الثمانينات، في مجلة "الوحدة" التي كان يصدرها المجلس القومي للثقافة العربية، وربطت بين ذلك وبين تربية محفوظ الثقافية والسياسية التي ارتكزت على انتمائه الوفدي من جهة، وعلى نظرته الفلسفية المتشككة، والباحثة عن اليقين من منطلقإنساني غير عنصري، من ناحية أخرى. ولما كانت الفكرة التي استمد منها "حزب الوفد" اسمه هي تشكيل وفد للتفاوض مع المحتل، كوسيلة لإقناعه بالجلاء ومنح مصر استقلالها، فإنه يصعب القفز على هذه الفكرة، واعتبارها خيانة للموقف الوطني، بل خلافا في الوسيلة، وخلافا في التفرقة بين محتل عابر مهما طال بقاؤه المستند إلى قوة عسكرية وذرائع مالية وأمنية وسياسية (الإنجليز)، وبين محتل استيطاني يستند إلى مزاعم تاريخية ومرجعية دينية، ويرتكب جرائم عنصرية مشينة؛ في طمس هوية الأرض وثقافة الشعب الذي يسلب حقوقه ويبيده وفق مخطط اغتصاب وتوسع عدواني لا يخفى على أحد.
(2)
الحديث عن محفوظ والتطبيع ليس هدفي من المقال، وليس الحديث المناسب للساعة، فالقضايا الساخنة تضع الواقع العربي كله فوق صفيح ملتهب.. لكن هذه السخونة لم تمنعني من التفكير في حالة محفوظ وانعكاسها على حياتنا، سواء ما يخص الجانب الشخصي للأديب الكبير، أو ما يخص أدبه وكتاباته. فعلى الجانب الشخصي، استمرت حالة التناقض ومحاولة إضفاء القداسة على الكاتب المشهور، على الرغم من أنه اعترف بنفسه في عدد من الحوارات بضعف موقفه في العلاقة بالسلطة، موضحا أن نظام السادات استدرجه للتطبيع، حيث اتصلت به الرئاسة وورطته (قال ذلك بالتعبير نفسه.. تعبير التوريط) في لقاءات مع الإسرائيليين، وتصريحات عن ضرورة التعايش وانتهاء حالة العداء بين "أولاد العم".. بل إن محفوظ حكى لي، في حوار منشور بصحبة الصديق الراحل القاص والصحفي مجدي حسنين، حقيقة "رسالة سوميخ". وقد كان شائعا بين المثقفين في ذلك الوقت؛ أن محفوظ يلتقي عددا من النقاد والكتاب الإسرائيليين ويتناقش معهم (قبل نوبل وبعدها)، بل كان يستقبل دبلوماسيين من السفارة الإسرائيلية والقنصلية الإسرائيلية بالإسكندرية، وقد دأب بعضهم على حضور بعض جلساته في الإسكندرية، والقليل منها في القاهرة.. وفي ذلك اليوم، تتحول الجلسة إلى "حالة خاصة" يتم فيها تحديد أسماء الحاضرين، وهذا يعني أن محفوظ، وبرغم كل ما يساق من مبررات، لم يكن لديه مشكلة داخلية في التعامل مع الإسرائيليين، وينظر إليهم كنقاد أو كمثقفين يساعدون على نشر أدبه عالميا، ويساعدونه في مشروعه الكبير كأديب إنساني يتجاوز حدود القطر الذي يعيش فيه، وحدود اللغة التي يكتب بها، وحدود الثقافة التي ينتمي إليها، وحدود القضايا التي تفرضها هذه الثقافة، وهذه اللغة، بل وهذا الأدب الذي يكتبه؛ لأن محفوظ في معظم الأوقات كان يتناقض مع أدبه، لذلك أحب أن أوضح، في العام 106 من ميلاد محفوظ، أنني أصدق أدبه أكثر مما أصدق شخصه، وهذا ما يعنيني؛ لأن الشخص مات وتحول جسده إلى تراب، بينما الأدب لا يزال حياً وفاعلا ومؤثرا، ومرتبطا بالقضايا واللغة والثقافة التي ترسم هوية هذه المنطقة وتحدد واقعها وتنبئ بمصيرها.
(3)
أثير اللغط حول محفوظ وموقفه من القضية الفلسطينية، بمناسبة الرسالة التي نشرتها السفارة الإسرائيلية متعمدة، في توقيت قرار الرئيس الأمريكي ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وبالتزامن مع الاحتفال بعيد ميلاد محفوظ. ويمكننا أن نتأمل هذه الضجة، لنفهم كيف تعمل العقلية الصهيونية على تقسيم مواقفنا وتكسير ثوابتنا وإحباط حالتنا المعنوية، وهذا أمر طبيعي أن يصدر من أي عدو يخوض الصراع بمفهوم شامل لا يقف عند شكل القتال المسلح، بل يمتد إلى كل المجالات والساحات بغرض التفوق وإضعاف العدو. لذلك علينا هنا أن نحلل ردود الفعل العربية على الخدعة الصهيونية التي تستخدم اسم محفوظ و"رسالته" كحصان طروادة؛ لتوسيع مساحة الاعتراف بتطبيع العلاقات بينها وبين المثقفين العرب، وجمهور محفوظ السينمائي والأدبي الواسع. فإذا كان صاحب نوبل العربية في الأدب ودودا ومتعاونا وشاكرا وممتنا للاهتمام العبري بأدبه، فلماذا لا يسلك الأدباء الشبان وجمهور الأدب نفس المسلك الممتن الودود؟ لكن المؤسف أن الردود على خطوة السفارة الإسرائيلية كانت ساذجة إلى حد مساعدة الصهاينة في خطتهم. فهناك من حاول نفي الرسالة والتشكيك فيها (برغم اعتراف محفوظ بها)، وهناك من سعى للدفاع عن محفوظ ومناصرته للقدس والقضية الفلسطينية؛ لأن شارك في كتابة الفيلم العربي الشهير "الناصر صلاح الدين"، وهناك من حاول إثبات دعم الأديب الكبير للقدس حتى بعد موته، مستدلا على ذلك بفوز الأديبة الفلسطينية حزامة حبايب بجائزة محفوظ للرواية التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والتي تزامنت مع إعلان ترامب ومع سطوع اسم القدس في سماء العرب الغائمة، بل إن هناك من تعسف في قراءة رسالة محفوظ إلى جائزة نوبل، باعتبارها رسالة لدعم القضية الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني، لكن أحداً لم يناقش القضية بما يليق بأطرافها، ومعظمهم من المثقفين، فظلت في دائرة ناقلي الأخبار، وخانة الكاتب الكبير، من دون دخول كتاب أو نقاد في قضية انتقلت من مساحة التعامل الثقافي إلى المشاريع التنفيذية التي ترتبط بالتفريط في الأرض، والتواطؤ الصريح مع الأعداء، وكل ما يدور في "المطبخ الجحيمي" تحت غطاء "صفقة القرن".
(4)
في تقديري؛ أن الزج باسم محفوظ اليوم في قضية القدس والتطبيع، ليس مصادفة عمياء، لكنه مناورة خبيثة تعيد استخدام حالة من الضعف الذي اعترف به محفوظ في علاقته كمثقف بالسلطة، في نفس الوقت الذي يجهل فيه معظم الشباب قيمة "الأدب المحفوظي" التقدمي، وقيمة الأسئلة الإنسانية والفلسفية المثيرة للجدل التي تطرق إليها أدبه، من علاقة الفقر بالانحراف الأخلاقي والسياسي (حميدة ونفيسة ومحجوب عبد الدايم مثلا)، وصولا إلى أسئلة الوجود ومعنى الإيمان ومعنى الحياة ذاتها. ولذلك، فإن الوقوف عند وقائع تمثل "الضعف الشخصي" للكاتب، تعد حيلة من حيل التربص والاجتزاء والتحريف، لأن قيمة محفوظ لا تنبع من حياته الشخصية، ومواقفه المزاجية، بل من قيمة الأدب الذي تركه للأجيال. وقد أستكمل هذا الجانب الناقص عن أدب محفوظ في مقال لاحق؛ يعكس لنا جانبا من المأزق الذي يحاصرنا، كما حاصر كمال عبد الجواد، وهو القناع الأكثر قربا من شخصية محفوظ الواقعية والأدبية. وأتعشم أن تسمح قضايا الساخنة المتوالية بفسحة من الوقت؛ أقدم لكم فيها السيرة الأدبية لهاملت العرب، المعبر عن الهزيمة الشاملة من خلال هزيمته الشخصية، وهو - كما قرأته - ليس نجيب محفوظ، وليس كمال عبد الجواد، لكنه أنا، وأنت، وهي، إنها سيرتنا جميعا.. سيرة الحالمين النبلاء المهزومين.
tamahi@hotmail.com