(5)
سبق الحديث عن مسألة ضبط عملية الاجتهاد، مما يطرق الحاجة للتمثيل لبعض صورها. فمن صور الانضباط العلمي؛ عدم إهدار نص نبوي نُسب للصحة لتوهّم معارضة جناحي التشريع لبعضهما. والأصل ألا يتعارض الظني مع القطعي، وإذا حدث ما "ظاهره" التعارض، وجب على الباحث أن يُعمل جهده في وجوه الجمع والتوفيق والتأويل على وفق قواعد العلوم، فإن لم يجد، يبحث عن الخاص والعام، أو النص السابق واللاحق، ليعرف أيهما الذي استقر عليه التشريع، وعليه كذلك ألّا يغفل خصوصية أحوال النبي، وأثر الخصوصية على النص، إذ يمكن أن يكون كلامه في غير مقام التشريع، كمقام الحاكم أو المعلم أو القائد أو الأب، أو غير ذلك من أحوال العباد.
من صور الانضباط العلمي؛ عدم إهدار نص نبوي نُسب للصحة لتوهّم معارضة جناحي التشريع لبعضهما
فإذا استقام له البحث في تلك الأمور، وجب عليه كذلك ألا يهدر أخبار الآحاد التي هي أغلب السنة النبوية، وأن يراعيها. ولو أُهدر خبر الآحاد دون انضباط علمي، أو لتوهّم معارضته للمعقول أو المنقول دون سعي للتوفيق والتأويل، لزم من ذلك إهدار معظم السنة والإبقاء على المتواتر فقط، ويذهب القسط الأكبر من عُمُد التشريع. ثم إنه لا يستقيم ولا يدخل في وصف المعقولية قبول أحدهم لنص آحاد بأدوات المحَدِّثين واستبعاده لنص آخر بأدوات مغايرة، بل أدوات القبول والاستبعاد ينبغي أن تتحدّ مصدريتها.
ثم إنه قد ثبت أن جماعة صلوا مع رسول الله بعد تحويل القبلة، فلما فرغوا خرج رجل ممن صلى معه صلاة العصر، فمرّ على قوم يصلون قِبَلَ بيت المقدس وهم راكعون، فقال لهم: "أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة" - يعني البيت الحرام - فداروا كما هم. وهذا نص عمدة في قبول أخبار الآحاد في مسألة جليلة - وهي القبلة - رغم ظنية حجيّتها، كما استقر في كتب العلم المدوّنة.
فإذا تقرر ذلك، زال الإشكال في فهم النص أو توهّم المعارضة، وعلى سبيل الاستطراد. فقد انتشر في كتب الأحناف - وهم سادة الرأي - قولهم: "إعمال النص أولى من إهماله"، وأنهم أفتوا في رأي ما لورود نص وإن خالف القياس. فطالما وُجد نص منسوب للصحة، فلا يمكن إهماله إلا بعد فناء أدوات وإمكانات إعماله. ويضاف لكل ذلك أن الباحث ينبغي عليه الاهتمام بما ينبني عليه عمل، والابتعاد عن القضايا التي لا ينبني عليها عمل، كما يتعلق بخصوصيات النبي، أو الأحكام المخصوصة، كرضاع الكبير، وما إلى ذلك من القضايا الخارجة عن نطاق العمل في زماننا.
(6)
إننا لا نريد عزل الماضي بالحاضر، ولا سحق الحاضر بإرث الماضي، بل نريد وصْلَ الحاضر بماضيه، ورعاية ما استجد من حوادث وأوضاع تتطلب النظر في مسائل فقهية طرقت الحاجة أبواب النظر فيها. ولو عزل الحاضرُ الماضي لغابَ كل منهما، واستؤصل النسل الحضاري لانعدام الجذر وخواء الفرع، ثم يضاف لتلك العوامل شدة الرياح الغربية. فالأمر كمنْ أنبتَ نبتا وأراد أن يُجمّل فرعه ولم يرقُب أصله فأصبح كالصريم.
لا نريد عزل الماضي بالحاضر، ولا سحق الحاضر بإرث الماضي، بل نريد وصْلَ الحاضر بماضيه، ورعاية ما استجد من حوادث وأوضاع تتطلب النظر في مسائل فقهية طرقت الحاجة أبواب النظر فيها
وللمفكر الإسلامي طارق البشري ملاحظة هامة عن ارتباك عملية
التجديد في القرنين الأخيرين، فذكر أنه "مع ارتباك خياراتنا الفكرية والثقافية من الفكر الوافد، ارتبكت أيضا خياراتنا بالنسبة إلى حركتيْ المحافظة والتجديد بالنسبة إلى الفكر الإسلامي الموروث؛ لأنه أُريد أن يصدَّر إلينا الفكر الغربي الفلسفي المناقض للعقائد الجارية عندنا، فصار الفكر الإسلامي في موقف الدفاع عن أصوله وثوابته. والدفاع يقتضي المحافظة، فتعارضت حركة التجديد في الفكر الإسلامي مع حركة المحافظة فيه، كل منهما يقوم بدور نافع على المدى الطويل، ولكن كل منهما تعارض مع الآخر في تأكيد أهمية الدور الذي يقوم به وأولويته.. وكان ذلك أشبه بقانون عام سببه أننا كنا في ظرف غزو أجنبي على المستويات كافة؛ فقام هدفان: هدف الإصلاح الذاتي، إذ كان الضعف الذاتي سبب نجاح الغزو، وهدف مواجهة الغزو ذاته.. وتضارَبَ الهدفان من حيث الأولوية، وعلى مدى القرن العشرين تلحظهما يتّحدان في فترات ويفترقان في فترات ويتضاربان أحيانا، على تفاصيل ليس المجال مجالها. وكل ما قصدتُ أن أوضحه هنا أن ثمّة عاملا خارجيا ضاغطا، وهو عامل سياسي في جوهره هو ما ينتج هذا الإرباك عندما نلاحظه على مدى القرنين الماضيين".
(7)
إن المسطور هنا سعي المقلّ الذي لا يجاوز كونه مطارحات مع أهل الاختصاص، لمحاولة تيسير فهم الشريعة، وشرحِ نفوس الذين صُدّوا عنها لها، وإزالةِ ما يلتبس في الأذهان من التقليد الأعمى أو توهم معارضة السنة
للقرآن، إذ هما يصدران من مشكاة واحدة، ولو تعارضَا لوجب انفكاك جهة التشريع، ولردّ بعضه بعضا دون انضباط علمي، والعلوم الإسلامية كغيرها من العلوم تخضع لقواعد وضوابط، وتحتاج للخوض فيها بتملك أدوات العلم والاحتكام لضوابطه، والمخالفة لهذه القواعد تأتي ممن ملك ناصيتها فقَدَر على نقدها.
لا اعتبار لمن أراد أن يجتهد في مسائل الشريعة دون تملّكه لأدواتها، وكذلك ينبغي لمن أدرك بعض الأدوات العلمية أن يقف على باب المباحثة مع أهل الاختصاص لا يجاوزه
والمحصّلة أنه لا اعتبار لمن أراد أن يجتهد في مسائل الشريعة دون تملّكه لأدواتها، وكذلك ينبغي لمن أدرك بعض الأدوات العلمية أن يقف على باب المباحثة مع أهل الاختصاص لا يجاوزه، لقصور آلته العلمية عن بلوغ رتبة الاجتهاد، وواجب على من ملك الأداة أن يجتهد في النظر في النصوص، ويبحث عن وجوه التوفيق بين النص الشرعي والواقع المعيش.. إذ التقليد ممتنع على المجتهد، ورفع الحرج مقصود للشارع، ولا يقوم به إلا المجتهدون والمُفْتون، فلا يصمّوا آذانهم عن كلام الناس وما يطرحونه من أقضية وحلول لرفع الحرج عنهم، ليقوموا بما ملكوا من أدوات ومعرفة بتذليل سبل المعيشة دون تفريط في الدين، ولا يحصروا عمرهم في الكتب المسطورة، ويتركوا كتب الحياة المنظورة أمامهم، لعل الله يفتح بابا بالنظر كان موصدا من قبل.