لعل من أقوى تجليات روح كنفاني الثائرة؛ قصة
اللاجئين الفلسطينيين الثلاثة الذين خبأهم سائق شاحنة التهريب في خزان شاحنته، في طريق تهريبهم إلى الكويت عبر الصحراء، ليخفيهم عن أعين حرس الحدود. وبعد أن تجاوز نقاط التفتيش، فتح الخزان ليتفاجأ بأنهم ماتوا اختناقاً. يختم كنفاني القصة بسؤال لا يزال يطرق الآذان: "لماذا لم يطرقوا جدران الخزان"؟
"لماذا لم يطرقوا جدران الخزان".. غدت مثلاً في الآخِرين تستحضر لإدانة الاستسلام للقهر والقبول بالموت الرخيص؛ دون محاولة الفرار إلى الحياة. إن النفوس الحرة لا تهاب الموت، فهو مصير الأحياء المحتوم، لكنها تنكر الموت المستكين دون مقاومة. إن الذي يموت أثناء محاولة الفرار إلى الحياة يكون إنساناً سوياً متصالحاً مع إنسانيته، لكن الغريب والمناقض للفطرة أن يستسلم المرء للذبح دون إبداء اعتراض.
اللاجئون الثلاثة الذين لم يطرقوا جدران الخزان في تراث كنفاني لهم مثل آخر في تراثنا، وهو ذلك الرجل المهزوم في زمن التتار الذي كان يوقفه الجندي التتري فيقول له: لا تبرح مكانك حتى أذهب فأحضر سيفي فأذبحك، فيتجمد في مكانه؛ لا يخطر بباله أن يحاول الفرار، بعد أن أحكمت قوى اليأس والعجز وثاقها على قلبه، فلم يعد ير للاستكانة والاستسلام بديلاً.
من الطبيعي أن تختل موازين القوى لصالح الظالمين حيناً من الدهر، ومن الطبيعي أن تشعر الشعوب الواقعة تحت الظلم بمحدودية خياراتها حين تتواطأ الظروف الخارجية والداخلية عليها.. لكن غير الطبيعي أن تفقد الشعوب المستضعفة الثقة في جدوى المحاولة، وأن تنشط في داخلها عوامل اليأس فتسلم رقبتها لسكين الجزار، ويسود الاعتقاد فيها أن ما يريده الأعداء كائن لا محالة لا راد لقضائهم ولا معقب لحكمهم، وأن أي محاولة لن تكون ذات جدوى.
القضية الفلسطينية الآن في أشد حالاتها ضعفاً وهواناً، فالموقف الفلسطيني الداخلي منقسم على ذاته، وخيارا المفاوضات والمقاومة المسلحة يصطدمان بالجدار، فلا المفاوضات جلبت اعترافاً بقدس أو لاجئين أو حدود 67، ولا
المقاومة المسلحة قادرة على مجابهة مخططات التصفية الصهيونية والتلويح بأوراق قوة تضطر الاحتلال إلى مراجعة حساباته. في هذا الوقت، تتملك إسرائيل نشوة القوة بفعل ظروف إقليمية ودولية غير مسبوقة من التأييد والمساندة، فالإدارة الأمريكية أزالت أي خطوط تمايز عن الرؤية العنصرية الصهيونية، والأنظمة الإقليمية تجاوزت مربع الإدانة الشكلية لممارسات الاحتلال؛ إلى مربع التواطؤ والمشاركة الفعلية في مخططات تصفية القضية الفلسطينية. في هذا الواقع، تسارع الأحزاب الخطى لفرض تصفية للقضية الفلسطينية في ما بات يعرف بـ"صفقة القرن"، والتي تحدث عنها المسؤول الأمريكي غرينبلانت قبل أيام، وأكد أنه لا يشترط فيها موافقة الفلسطينيين، إنما ستفرض عليهم في حال رفضوها.
في ضوء سيادة شعور القهر والعجز في أوساط الفلسطينيين، راجت على نطاق واسع في الأيام الأخيرة فكرة مسيرة
العودة السلمية، وهي فكرة غير تقليدية تقوم على حشد مئات ألوف اللاجئين في وقت واحد، وإعلان اعتصام مفتوح على مقربة من الخط الفاصل مع الأراضي المحتلة عام 48، في حضور وسائل الإعلام وبالتواصل مع المؤسسات الدولية، ثم في المرحلة اللاحقة، الاجتياز الجماهيري السلمي للسلك الفاصل، وتحقيق العودة فعلياً وفق قرار الأمم المتحدة 194، على غرار اقتحام الشعب المغربي حدود الصحراء الغربية عام 1975؛ عندما كانت خاضعةً آنذاك للاحتلال الإسباني.
اللافت أن المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، رغم طبيعته الميالة إلى أشكال المقاومة المسلحة، إلا أنه تلقى هذه المرة فكرة مسيرة العودة الكبرى بحماسة لا تخفى على متابع لوسائل الإعلام الاجتماعي.. هذا التفاعل يفسر بأنه النتيجة الطبيعية لجملة الظروف السياسية التي يواجهها أهالي قطاع غزة خصوصاً، والفلسطينيون عموماً، فهم محشورون في الزاوية لا يملكون ترف التردد أو التفكير في خيارات أخرى، وخيار المواجهة العسكرية سبق تجريبه عام 2014 دون أن يحقق نتائج سياسية، كذلك فإن الانتظار غير متاح لهم في ظل الحديث عن قرب الإعلان عن صفقة القرن التي تتضمن تهديدات جادةً لحقوقهم السياسية وأهمها قضية اللاجئين.
هذه الحماسة الكبيرة في الترويج لفكرة "مسيرة العودة الكبرى" مؤشر إيجابي على أن الفكرة تمتلك اليوم فرصةً أكبر للنجاح بعد تزايد المؤمنين بها، لكن قوة الفكرة لن يضمن لها نجاحاً آلياً ما لم تؤخذ بعض المحاذير بعين الاعتبار.
أولاً: هي مسيرة سلمية خالصة، ويجب أن تحافظ على طابعها السلمي، وعدم خلطها بأي شكل من أشكال الظهور المسلح. إن مشهد مئات ألوف اللاجئين السلميين يربك الاحتلال أكثر مما تربكه جيوش من العناصر المسلحة الذين لن يتردد في سحقهم بالطائرات.
ثانياً: نجاح هذه الفكرة في قوة التحشيد لها. إن احتشاد آلاف قليلة من الفلسطينيين بالقرب من الخط العازل سيظهر الفكرة باهتةً، لذلك لا بد أن تبذل الفصائل والمكونات المختلفة جهدها في حشد 100 ألف على الأقل في قطاع غزة؛ لتكون هذه المسيرات قادرةً على إيصال رسالتها بقوة ولإضعاف قدرة الاحتلال على احتوائها.
ثالثاً: الحديث ليس عن فعالية ليوم واحد تنتهي بغروب شمس ذلك اليوم، بل يجب أن يكون اعتصاماً سلمياً مفتوحاً لتحشيد مزيد من الفلسطينيين في المشاركة، واستجلاب الدعم الدولي، وتحريك الجبهات الأخرى لأماكن تواجد اللاجئين الفلسطينيين، وإبقاء الاحتلال في حالة استنزاف أمني وسياسي وإعلامي.
رابعاً: الحضور الفصائلي ضرورة للتحشيد وللمساعدة اللوجستية، ولن تنجح مسيرة العودة الكبرى دون مشاركة فاعلة من الفصائل، لكن يجب التأكيد على ضرورة إظهار الطابع الشعبي للمسيرة، ورفع علم فلسطين وحده وقرار "194"، وعدم تصدر الشخصيات المعروفة بارتباطها بالمقاومة المسلحة صفوفَ المشاركين، كذلك يجب أن يكون هناك دور رئيس لمنظمات المجتمع المدني والروابط والاتحادات المجتمعية في التحشيد والمشاركة.
خامساً: الحديث هذه المرة عن ثورة سلمية لشعب كامل في مواجهة تصفية حقوقه، وفراراً من الموت البطيء التي يواجهه في قطاع غزة؛ الذي أكدت تقارير الأمم المتحدة أنه لن يكون صالحاً للحياة بعد عامين، لذلك لا بد من إظهار العائلات في المشهد، وأن تتقدم النساء والأطفال والعجائز. فالشعب بكل مكوناته قرر كسر جدران الخزان، والتحرر من المعزل العرقي الذي يحبسه الاحتلال فيه.
سادسا: الاعتصام يجب أن يكون في مكان آمن بعيداً نسبياً عن السلك الفاصل؛ لأن الالتحام المتعجل مع قوات الاحتلال قد يجهض الفكرة. هذه الفكرة لا تهدف إلى إراقة الدماء بل إلى العودة الفعلية، والتي لن تكون متاحةً إلا بعد حشد أكبر عدد ممكن من اللاجئين ثم انطلاقهم دفعةً واحدةً في اتجاه الوطن.
سادبعاً: إن المزاج الدولي الراهن سيساعد الفلسطينيين في هذا النشاط السلمي، فأوروبا قبل سنوات قليلة فتحت حدودها لعشرات آلاف اللاجئين السوريين. فإذا كانت إسرائيل تزعم أنها تنتمي إلى الحضارة الغربية، فإن عليها أيضاً ألا تقتل اللاجئين السلميين الذين يطالبون بتحقيق قرار العودة الذي نصت عليه الأمم المتحدة. كذلك، يجب أن يسبق الاعتصام السلمي ويتزامن معه حركة نشطة من الحقوقيين والإعلاميين المناصرين للقضية الفلسطينية لمراسلة المنظمات الدولية، ومطالبة الأمم المتحدة بحماية هذا الاعتصام السلمي كون هؤلاء اللاجئين تحت مسؤوليتها.
ثامنا: بعد نضوج الفكرة يقرر الميدان الخطوة التالية، وفي حال نجاح الفلسطينيين في قطاع غزة في حشد 100 ألف متظاهر سلمي، ونجاح الجبهات الأخرى في حشد عشرات الألوف، فإن الاحتلال سيجد صعوبةً في التصدي لهذه الزحوف الهادرة. وحتى لو سقط شهداء أثناء خطوة الاقتحام الفعلي بعد مرحلة التهيئة والحشد، وكان نتيجة ذلك تمكن الفلسطينيين من اجتياز الخط الفاصل إلى ديارهم المحتلة عام 48، فسيكون هذا الثمن مقبولاً. لقد سقط آلاف الضحايا في معارك دون أي نتائج سياسية، بل إن أكثر من ألفي مهاجر عربي ماتوا غرقاً في السنوات الأخيرة في البحر الأبيض المتوسط، هذه المرة سيكون الموت في الاتجاه الصحيح، وفي سبيل تحقيق إنجاز وطني كبير.
لا يرتابني شك في فعالية سلاح مسيرات العودة وقدرته على تحقيق إنجاز تاريخي إن أحسن التحشيد والإعداد، لكن يساورني خوف بألا يكون الوقت في صالحنا في ضوء تسارع الحديث عن عدوان وشيك على قطاع غزة وعن فرض صفقة القرن، لذلك على الفصائل والقوى الفلسطينية أن تعلم أنها لا تملك فائضاً من الوقت للتردد كثيراً، وأن تبدأ فعلياً في الحشد والتجهيز العملي للاعتصام، لعل هذا الخيار يكون سبباً في إبعاد شبح المواجهة العسكرية عن غزة.
لقد آن الأوان ليضع الفلسطينيون حداً لحالة العجز ويتمردوا على سكين الجزار، وإن أحسنوا استثمار ورقة مسيرات العودة بذكاء وحسن تخطيط وقوة تحشيد، فإنهم لن يطرقوا جدران الخزان وحسب، بل سيحطمون هذه الجدران أيضاً.