لا ينكر أحدٌ من المتابعين للشأن السُّوري حقيقة أنَّ
روسيا أنقذت النّظام السّوري من السّقوط، وأنَّ
تركيا الدّاعم الأبرز للثورة السّوريّة، وأنَّ العلاقات بين روسيا وتركيا وصلت إلى شفا جرفٍ هار بعد إسقاط تركيا الطّائرة الرّوسيّة نتيجة تباين الموقفين من المشهد السّوري، حيث لا نقطة التقاء واحدة جامعة بينهما، سواء على الجغرافيا العسكريّة أو الأهداف السياسيّة المستقبليّة.
ولسنا هنا في صدد الظّروف والنّوايا التي اضّطرت تركيا "للتحالف" مع روسيا رغم استمرار البون الشّاسع بينهما، إنّما في صدد المكاسب التي حقّقها الأتراك لهم وللثورة السّورية من جهة، وإمكانية الاستمرار في هذا "التّحالف" في ظل المواقف الرُّوسيّة المُتصلِّبة تجاه مطلب رحيل الأسد، من جهةٍ أُخرى.
أثمر التّقارب التّركي الرّوسي عن لقاءات أستانة التي بدأت مطلع عام 2017م، وقد اتّسمت برسم خارطة للتفاهمات العسكريّة "إنشاء آليّة ثلاثيّة لمراقبة وضمان الالتزام الكامل بوقف إطلاق النّار" وخطوط عامّة مثل؛ التّمسك بسيادة ووحدة الأراضي السّورية، والاعتراف بسورية دولة متنوعة ومتعددة الأديان، وأنَّ الحلّ الوحيد سيكون من خلال عمليّة سياسيّة مبنيّة على تطبيق قرار مجلس الأمن الدّولي 2254 كاملاً. ناهيك عن الملف الإنساني.
وفي حسبة لما جرى بعد ما يقارب العام على تفاهمات أستانا، نجد أنَّ المكسب التّركي تمثل في سيطرة قوّات درع الفرات، بمساعدة تركيا، على مثلث جرابلس- اعزاز- الباب، وأدت تلك السّيطرة لمنع وصل مناطق سيطرة القوّات الكرديّة، ممّا طمأن الأتراك من جهة، وأبقى للجيش الحر موطئ قدم في الشّمال السّوري بعد خسارة مدينة حلب. ومهّدت هذه السيطرة لانطلاق عمليّة "
غصن الزيتون" في عفرين ضد قوات الحماية الكرديّة التي تتهمها تركيا بالتبعيّة لحزب العمال الكردستاني المصنّف على قوائم الإرهاب الغربية.
ومن النّاحية السّياسيّة، زاد الثّقل التّركي في الملف السّوري، وبدا مستحيلاً الوصول لصيغة ما للحلّ دون تركيا.
وفي المقابل، سمح هدوء الجبهات للرّوس بالتّفرغ لقتال تنظيم الدّولة، وتقدّموا شرقاً حتى وصلوا إلى البوكمال على الحدود العراقيّة السّوريّة، ليعلنَ الرّوس الانتصار على التنظيم.
والتزم الأتراك، ومعهم قوّات المعارضة، بمخرجات أستانا التي لغّمها الرّوس منذ لقاء أستانا الأوّل، من خلال استثناء جبهة النّصرة (هيئة فتح الشّام) وفصلها عن بقيّة الفصائل المسلّحة دون توضيح الآليات لهذا الاستثناء، ممّا أدّى بدايةً لشرخ في المعارضة السّورية وتباين المواقف حول محاربة النّصرة (الآن أو تأجيل الصّدام كونه يخدم الأسد)، قبل أن يحدث الاقتتال الدّامي الذي تشهده إدلب حالياً، وشهده ريف دمشق على مراحل متقطعة. وفي المقابل، اتّخذ الرّوس جبهة النّصرة ذريعة لمحاربة المعارضة السّورية ذات الأجندة الوطنيّة، وقام النظّام بعدة عمليات تهجير لمناطق لا وجود للنصرة فيها (المعضمية وادي بردى... الخ)، ومناطق أخرى وجود عناصر النّصرة فيها لا يكاد يذكر، وتركت مخيّم اليرموك في دمشق تحت سيطرة تنظيم الدولة "داعش" الذي يأتيه السلاح، ويدخل قادته وعناصره للمخيم رغم حصاره؟!
وبدا واضحاً للعيان أنّ هدف الرّوس اجتثاث المعارضة السّوريّة عبر قضم المناطق الواقعة تحت سيطرتها واحدة تلو الأخرى، تمهيداً لتكريس سلطة الأسد على الجغرافيا السّوريّة تحت ذريعة محاربة جبهة النّصرة، في خرق واضح لتفاهمات أستانا التي جعلت روسيا خصماً وحكماً في آن.
وما يجري اليوم من
مجازر وحشيّة في الغوطة من قبل الرّوس والنّظام رغم قرار مجلس الأمن يثبت نوايا الرّوس التي عبّر عنها لافروف صراحة "إن تجربة السّيطرة على مدينة حلب يمكن أن تستخدم في الغوطة الشّرقية"، مستخدمين الذّريعة ذاتها: "جبهة النصرة هي المشكلة الرئيسية في الوضع بالغوطة الشرقية".
وحاول الرّوس جني ثمار سياسيّة، والبناء على مكاسب أستانا العسكريّة. فعقدوا مؤتمر الحوار الوطني السّوري "
سوتشي" لقطف ثمار المكاسب الميدانيّة على الأرض، لكنّ الأتراك ومعهم الغرب تنبّهوا للمسعى الرّوسي، فلم تضغط أنقرة على المعارضة السّورية لحضور المؤتمر رغم تحالفها مع موسكو.
تؤكّد الخروقات الرّوسيّة أنّ تفاهمات أستانة لن تستمرّ إلى ما لا نهاية، وأنّ حبل الكذب والغدر الرّوسي واستغلالهم للأتراك في ملفات معيّنة، منها "عفرين"، سينقطع. وبوادر ذلك الشّرخ واضحة للعيان، ففي الوقت الذي يقصف فيه الرّوس الغوطة، يبدي الأتراك استعدادهم لمعالجة جرحى الغوطة في مشافي تركيا. ومن جانب آخر، سماح الرّوس للنظام السّوري إرسال قوّات عسكريّة إلى عفرين، والحديث عن شمول قرار مجلس الأمن لعفرين، وطلب موسكو، على لسان لافروف، من تركيا محاورة النّظام، بقوله: "على جميع اللاعبين الخارجيين أن يعوا ضرورة الحوار مع دمشق حفاظاً على وحدة
سوريا". وهذا قد يشير إلى أنّ مكاسب تركيا والثوّار قد تكون مجرد طعم روسي، ولا سيما أنّ الأتراك، على لسان الرئيس أردوغان، عبّروا عن رفضهم الصّريح والتّام لأي دور للأسد أو الحوار معه: "هناك بائسون يدعوننا للجلوس مع الأسد لحل القضيّة السّوريّة، كيف نجلس مع من قتل مليون من مواطنيه".
وستكون النتائج كارثيّة على تركيا والثّورة السّورية في حال نجاح الرّوس في مسعى تعويم النّظام فالنظام السّوري الذي استخدم الورقة الكردية في سوريا لإحراج تركيا لن يدّخر جهداً في استخدامها لاحقاً في الداخل التّركي، وتجربة تدريب عناصر أوجلان ما زالت حاضرة ناهيك عن الارتدادات التي سيتركها بقاء الأسد على الدّاخل التركي، فهل يتحرك الأتراك ويَخرجون من دائرة إدانة خروقات أستانة ويدفعون الرّوس للحل السّياسي أم تمضي روسيا في مخططها أم تحدث القطيعة؟ هذا ما ستكشفه ربما أحداث ما بعد الغوطة وعفرين.