تعيش المنطقة العربية في أزمة
الاستبداد، سواء أثناء وقوعها تحت الاحتلال الأوروبي أو عقب استقلالها، إذ تحولت نظم الحكم المنشأة من حركات الاستقلال والتحرر؛ لديكتاتوريات تجاوزت في قمعها وبطشها سلوكيات المحتل الأجنبي.
ولإبعاد شبهة المبالغة في التوصيف يمكن للمتابع أن يقارن بين حال بلد كسوريا في ظل الاحتلال الأجنبي بخسته وإجرامه، وبين حاله في ظل نظام السفاح الحالي وأبيه، إذ لم نسمع عن قتل مئات الآلاف بهذه الصورة إلا في ظل نظام "الممانعة والقومية العربية".
ما أحدثته الثورة السورية من أحداث، كشفَ عن وجود تأزم على عدة مستويات، فلدينا أزمة مذهبية حادة، ولدينا أزمة توازن قوى دولية، ولدينا أزمة أخلاقية على كل المستويات، كما كشفت أن لدينا أزمة في وجود قيادة عربية أو إقليمية قوية لحل أزمات المنطقة، وأصبح أمر المنطقة في أيدي توابع لقوى كبرى لا يعرفون من السياسية سوى تملّق ذوي النفوذ، واحتقار مواطنيهم وأشقائهم.
الأزمة الذاتية للمنطقة كانت في العلاقات السنّية- الشيعية، إذ تعالت خطابات التباعد البالغة حد التكفير، وتم حشد الجيوش ضد "الرافضة" في اليمن، وارتُكبت المجازر ضد السنة والشيعة على حد سواء في
سوريا واليمن، ومن قبلهما في العراق.
أصبحنا أمام رأسين: إيران باعتبارها حاضنة الشيعة، والسعودية التي تزعم احتضانها للسنّة، وكلا الطرفين أساءا لجمهور المسلمين من المذهبين، ولا أدل على تنغيص السياسة لتلك العلاقة، من مشهد اصطفاف الكل في صف واحد لقبلة واحدة داخل الحرم المكي أو المدني، ولو كان الشيعة غير مسلمين فلِمَ يُسمح لهم بدخول الحرمين؟ ولو كان السنة نواصب، فلِمَ يقتدون بإمام سني في أحد الحرمين؟ فالإشكال في القيادات السياسية لدولنا، وفي القيادات الدينية التابعة للساسة، ولا حل سوى بإنهاء تلك السيطرة الاستبدادية على الشأن الديني في المنطقة.
إن الحديث عن العلاقة المفتَرَضَة بين السنة والشيعة، لا يعني غض الطرف عن أخطاء أي طرف منهما، سواء كان الشحن دينيا أو قوميا، وحق الأطراف في تحقيق المصالح لا يعني غياب المصلحة الأكبر في استقرار المنطقة، والاستقرار لا يعني مجرد وقف الحروب أو التحرش السياسي، بل أول صوَرِه عدم إثارة النعرات المذهبية أو القومية، ورضاء الشعوب بالعيش المشترك مع بعضها.
ثم هناك أزمة أخرى كشفتها الثورة السورية، وهي ما يتعلق بالواقع الدولي، إذ أصبحنا أمام منطقة صراع على بسط النفوذ أو تقليم الأظافر، وأصبحت سوريا مرتعا لتصفية الحسابات السياسية، أو لتحقيق مكاسب دولية، أو لتجريب أسلحة جديدة واكتساب خبرات قتالية، فبدت الوجوه الوضيعة لكل الأطراف المتورطة في الصراع، وبدت الأزمة الأخلاقية للديمقراطيات الغربية التي تقدر على إنهاء القتال هناك والبدء في إجراءات تنهي الأزمة، لكن القيم التي يتم ترويجها في بلدانهم، لها حدود مكانية لا تتجاوزها، ولا يبدو أنهم ينظرون لأهل المنطقة بنظرة المساواة في الحقوق الطبيعية، وطغت المصالح السياسية على وقف القصف والقتل والدمار والمعاناة لأهل سوريا.
وكشفت الثورة السورية كذلك أزمة غياب القيادة الإقليمية أو العربية، وأن تحول القيادة للخليج أبدى عما يضمروه من كراهية لتطلّع الشعوب إلى الحريات، فقاموا بتسخير أموالهم في كبح عمليات التغيير السلمي، وحولوها لعمليات قمع عنيفة، كما جرى بمصر وليبيا واليمن وسوريا، مع محاولات في تونس ودعم محاولة انقلاب في تركيا، ويتوازى مع تلك الشراسة في المنطقة ومع شعوبهم، انبطاح تام واسترضاء لأمريكا ودفع "إتاوات" يفرضها رئيس أحمق محدود القدرات العقلية، مقابل بقاء هذه الزعامات جوفاء الفكر والروح على مقاعدها، وجاثمة على صدور الشعوب وحاصدة لرؤوس معارضيها.
ثم كشفت الثورة السورية أخيرا عن خواء مصطلح "الممانعة"، إذ لم يطلق نظام البعث السوري طلقة واحدة ضد المحتل الإسرائيلي منذ ما يقرب من نصف قرن، بل لا يسمح لحركات وطنية بالقيام بواجب تنغيص استقرار الاحتلال، وأخرج النظام أسلحته التي صدئت في المخازن ليعيد تجديدها في مواجهة أبناء وطنه، وليقتل مئات الآلاف في أكبر كارثة إنسانية في القرن الواحد والعشرين، ودون اكتراث من أحد بفداحتها.
كما أن باقي أطراف ما يسمى بمحور الممانعة سقطوا في الاختبار السوري على المستوى الأخلاقي والطائفي، فإيران كذلك تقف أمام إسرائيل موقف المشاغب باللسان، لكنها لم تجرؤ على حماية مصالحها من العدوان الإسرائيلي كما فعلت مع السوريين العزل، في دلالة واضحة على أن الحرب لن تكون إلا ضد الضعفاء فقط. وليس المقصود بذلك دعوتها لإعلان حرب، لكن إذا كانت تلك وسيلة إيران في حماية مصالحها، فلماذا اقتصرتها ضد العزل فقط؟ أما حزب الله، فقد سبب غصّة كبيرة في نفوس الذين سعدوا بإذلاله للعدو الصهيوني، ووقفوا دعما له في ظل خطاب كراهية من نظم الاستبداد، والحركات السلفية. وإن كان حزب الله قد استفاد على المستوى القتالي من تدريبه على أهداف حية وفي معركة فاقدة للشرف، فإنه قد خسر حاضنته العربية والإسلامية في شتى البقاع، ولا يكفي السلاح أو التدريب في الحروب، إذا انتفى الدعم المعنوي، وهو أمر لا نزاع فيه في أوساط العسكريين.
الأزمة السورية الحالية ليست أزمة خاصة بالسوريين لا تتجاوز حدود بلدهم، بل هي أزمة إقليمية ودولية، كشفت الوجوه الوضيعة لكل طرف يؤدي دورا سلبيا بها، إما بالمشاركة في تفاقمها أو بالامتناع عن السعي لحلها، وبالمقابل كشفت عن نقاء معدن هذا الشعب الطيب، الذي ما زار قُطْرا إلا وعمّره بالجمال والبهاء. وشعب كهذا سيعيد نضارة بلده عقب انكشاف الغمة في وقت أسرع مما دمره كل هؤلاء المجرمين.