استفحلت معضلة ليبيا السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية، حتى يكاد يكون اليأس من حلها هو اللغة الناعمة والدارجة بين عموم الناس وكبار الساسة وقادة المليشيات والأحزاب السياسية، وحتى التنظيمات الإرهابية.
في ميدان السياسة، كان من المفترض أن يكون اتفاق الصخيرات الموقع في كانون الأول/ ديسمبر 2015 هو المسطرة التي يقاس بها حل الخلافات بين مختلف الأطراف. لا شك أن الاتفاق جاء مفخخا وقابلا لأكثر من تأويل وأكثر من تفسير، وبدل أن يكون واقعيا تحول إلى لغة قانونية ونصوص مواد يتمترس خلفها كل طرف.
خطة تعديل الاتفاق السياسي التي تبناها المبعوث الأممي، غسان سلامة، هي الأخرى توقفت بسبب مطالبة البرلمان بالانفراد باختيار المجلس الرئاسي من رئيس وعضوين واختيار الحكومة التنفيذية، ومنح دور المشاهد للمجلس الأعلى للدولة، الطرف الآخر في المعادلة السياسية.
انتشرت مؤخرا أقاويل عن صفقة جديدة تتلخص في أن يختار الجنرال حفتر مرشحا يمثله كنائب في المجلس الرئاسي، مع بقاء السراج رئيسا، على أن يشارك المجلس الأعلى للدولة في اختيار ممثل الجنوب الليبي في المجلس الرئاسي، لا أن ينفرد باختياره.
يتزامن ذلك مع مفاوضات بين عسكريين ممثلين لحفتر وآخرين ممثلين للمجلس الرئاسي برعاية مصرية، قيل أيضا إن حفتر (في المسودات المطروحة) سيحتفظ بمنصب القائد العام للجيش، وأن ينصب عبد الرازق الناضوري نائبا له، ويحتفظ المجلس الرئاسي بلقب القائد الأعلى للجيش، مع إلغاء وزارة الدفاع ورئاسة الأركان، وانشطار المؤسسات الأمنية والعسكرية في غير ما علاقات تبعية بينها.
تستلزم هذه الخطة إقصاء المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب، وحصر الخصومة والتفاوض والحل بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج وقائد عملية الكرامة خليفة حفتر. وبالتالي ضرب الاتفاق السياسي من الجذور والعودة إلى مربعات أيلول/ سبتمبر 2014، حيث انطلقت المفاوضات بين المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب.
كما أن هذا يعني إنهاء طموح رئيس المجلس الأعلى للدولة عبد الرحمن السويحلي، ورئيس البرلمان عقيلة صالح، في إمكانية الدخول إلى مربع المجلس الرئاسي، وهما اللذان سعيا إليه بكل قوة.
ويتبع ذلك أيضا إمكانية وصول حفتر بموجب هذه الصفقة إلى قلب العاصمة طرابلس، وهو الذي فشل في دخولها بنصر عسكري، وهو الذي يطمح في حكمها، حيث أن سيطرته على شرق البلاد، عدا درنة، غير مقنعة له، ولا لحلفائه الإقليميين (مصر والإمارات اللتين استثمرتا فيه ملايين الدولارات).
ما يواجه هذه الصفقة من صعوبات يتمحور حول فقدانها التام لأي إطار قانوني، فبدون تمرير الأعلى للدولة والبرلمان لها، ستظل جنينا مشوها ميتا، لا دور له إلا مزيد من خلط الأوراق، بل وحتى التسبب في إمكانية نشوب حروب واسعة أهلية بين كافة المجموعات التي يمكن أن تتضرر مصالحها.
كما أن المليشيات والكتائب التي تسيطر على غرب البلاد، خاصة أقواها في طرابلس ومصراتة، ليس لها مصلحة آنية في تسليم الغرب الليبي إلى حفتر؛ الذي يتمتع بعقيلة إقصائية وانتقامية اكتسبها من زيه العسكري، وتشبثه بآليات نظام العقيد الراحل معمر القذافي.
لذا لن تسمح هذه الكتائب والقوى المسلحة وهي المسيطرة على مفاصل غرب ليبيا وعصبه الاقتصادي والأمني، لدخيل مثل حفتر أن يحكمها، إضافة إلى توقع إقصاء حفتر لهؤلاء القادة العسكريين وسجنهم وقتلهم حتى غذا اقتضت الضرورة.
يبقى الأهم من ذلك، هل سيقبل حفتر بأن يكون مجرد قائد عام للجيش الليبي المزمع توحيده، وأن يحتفظ السراج ونائباه بمنصب القائد الأعلى للجيش؟ بإلقاء نظرة سريعة على سلوك حفتر منذ تدشينه عملية الكرامة في أيار/ مايو 2014، ستكشف حجم التسلط والفوقية ورفض شراكة الآخرين له في القيادة.
حفتر لم ينكل بخصومه فقط في بنغازي، بل ضرب حتى حلفاءه القبليين وأخضعهم جميعا لسلطته غير القابلة للنقاش أو المشاركة. فقبيلة العواقير في بنغازي التي تحملت جزءا غير يسير من فاتورة حرب الكرامة، والتي توقعت أن تكون شريكا لحفتر في بنغازي، انتهى بها الحال إلى الإذلال التام والقبض على أبنائها وتفكيك كتائبهم.
للأسف، لم يتأكد أحد حتى الآن من جدية صفقة القرن الليبي، وما إذا كانت الدول الكبرى والبعثة الأممية تبنتها رسميا.
جمود الحل السياسي في ليبيا: مقدمة لمشروع بديل؟