وأخيرا، عرضت المسرحية التي طال انتظار أصحابها كثيرا لعرضها،
ليشهدها العالم أجمع بعد طول تحضير استمر أشهر طويلة، تخللتها أحداث جسيمة لكل من
سولت له نفسه الاقتراب منها ليأخذ دورا فيها، فكان مصيره إما الحبس، كالفريق
"سامي عنان" رئيس أركان الجيش الأسبق والعقيد "أحمد قنصوة"،
أو العزلة والإقامة الجبرية، كالفريق "أحمد شفيق"، أو إحالته للمحاكمة
في دعوى فعل فاضح، كالمحامي "خالد علي"!
بدأت
الانتخابات الرئاسية في مصر، والتي بدأ الإعلان عنها منذ أشهر في جميع ميادين
وشوارع وحواري وأزقة محافظات مصر كلها بلا استثناء، باللافتات التي تحمل صورا لبطل
المسرحية دون غيره؛ لأنه ببساطة لا يوجد غيره في المسرحية، حتى الكومبارس اختفى..
ومنذ متى يكون للكومبارس دور، وهو الذي أعلن تأييده للسيسي في مهزلة انتخابية لم
يشهد لها مثيل من قبل في أي دولة في العالم؟!
مسرحية
هزلية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فرض مخرجها بالأمر على أصحاب المحلات
التجارية والشركات ضرورة تعليق أكثر من لافتة تأييد للبطل الأوحد، وإلا فمصلحة
الضرائب تنتظره والأوراق ستخرج من الأدراج، وما أدراك مصير مَن تخرج أوراقه من
أدراجهم! والوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية عامة دخلت في المارثون الانتخابي،
تتسابق فيما بينها على حشد الموظفين للاقتراع، فوزعوا المنشورات التي تدعو
الموظفين بأسلوب الترهيب والترغيب؛ لضرورة الذهاب إلى اللجان الانتخابية وإلا
تعرضوا للمساءلة. وفي الوقت ذاته، تعد الموظفين بمزايا وظيفية، بل بلغ الأمر أن
محافظة البحيرة قدمت رشاوى للقرى والمراكز التي سيخرج منها أكبر عدد من الناس
للاقتراع، وذلك على الهواء مباشرة في اتصال تلفوني مع برنامج تلفزيوني على شاشة
القناة الرسمية. كما أن محافظ مرسي مطروح وعد برحلات عمرة مجانية لأكبر عدد من
المشاركين.
ومن المهازل أيضا؛ أن يقرر مدير المنطقة التعليمية في محافظة الفيوم منح الطلاب الذين يذهبون للانتخابات عشر درجات إضافية لمجموعهم النهائي! حتى الأزهر لم يغب عن المشهد، فقد أصدر أمرا إداريا للعاملين فيه ولجميع المعاهد التابعة له؛ بوقف الإجازات خلال فترة الانتخابات الرئاسية، وحث العاملين على الحضور إلى مقر اللجنة الانتخابية التي أعدها خصيصا لهذا الغرض، وعين موظفين أمنيين لمتابعتهم حتى عودتهم والاطمئنان إلى وجود الحبر الفوسفوري على إصبع كل موظف! وتنافس شيوخ الأزهر مع قساوسة الكنيسة في تكفير مَن يقاطع الانتخابات، حتى بلغ بأحد القساوسة (الأنبا "كيرلس") أن يقول إن الله هو مَن اختار السيسي! وهو ما يعتبر خلطا صريحا ليس فيه أدنى لبس؛ بين الدين والسياسة، وكأننا في دولة ثيوقراطية. وتتعجب من صمت تلك النخب المنحطة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في العام اليتيم الذي حكم فيه الرئيس "محمد مرسي"، واصفة حكمه بالفاشية الدينية، والتي لم نر أي مظهر من مظاهرها خلال فترة حكمه القصيرة، بينما وجدنا السيسي يقول: "نحن نحارب في سيناء من أجل ربنا".
وفي لقاء آخر يقول: "نحن
نحارب خوارج العصر" واستعمال لفظ خوارج يعيدنا لزمن سيدنا علي بن أبي طالب
أليس في ذلك خلط الدين بالسياسة، والتي لطالما هاجموا به جماعة الإخوان المسلمين
مرارا. ولكن ما كان مباحا ومتاحا في السنة اليتيمة التي حُكمت فيها مصر حكما مدنيا؛
لم يعد مسموحا به في ظل الحكم العسكري، السنة الوحيدة التي تنفست فيها مصر نسيم
الحرية، وكانت تلك النخب أكثر من استنشقتها، ولكنها بطرت بأنعمها فأذاقها الله
لباس الخوف، فاختبأت في الجحور بالعة ألسنتها!
ولكن
هناك بعض من تلك النخب من لاعقي البيادة التي نالها من الحب جانب، وحظيت بالرضى
السامي، فكان لها نصيب من التورتة، مثل معتز الدين عبد الفتاح، أستاذ العلوم
السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية الذي باع شرفه المهني والعلمي بأبخس
الأثمان، فيقول إن الانتخابات الرئاسية في مصر هي منافسة محتدمة بين اثنين من
مرشحي الداخل، هما عبد الفتاح السيسي وموسى مصطفى موسى، من جانب، وعشرة منافسين
متربصين في الخارج، يتقدمهم رئيس تركيا وأمير قطر وجماعة الإخوان وإيران وإسرائيل
وأمريكا والغرب كله، وأطماعهم التوسعية، وداعش ومدعو الثورية والحرية الذين
يتقاضون بالدولارات من الخارج! إنها محاولة رخيصة لإرهاب الناس وإيهامهم بشبح
الخطر الخارجي الذي يداهمهم من كل مكان. وكي لا نصبح كسوريا والعراق، فلا بد من
المشاركة في انتخابات وهمية سيسجلها التاريخ على أنها من نكات عصر مظلم في فصل من
كوميديا سوداء تعيشها مصر منذ انقلاب تموز/ يوليو 2013!
ومن
إبداعات هذا العهد البغيض، ربط هز الوسط (أي الرقص) بالانتخابات، وجعل بينهما
علاقة عضوية. فكما حدث في انتخابات 2014، رقصت السيدات والرجال أمام اللجان
الانتخابية على وقع موسيقى تسلم الأيادي، حدث نفس الشيء أيضا في هذه الانتخابات،
وكأنها نسخة مكررة منها، إلى جانب استغلال كبار السن الذين يحضرون اللجان على
كراسي متحركة، ومساعدة ضباط الشرطة لهم، بل الجديد هذا العام أن أتوا بسيدة مسنة
تخطت المئة عام في سيارة إسعاف، لتدلي بصوتها، في مشهد لا إنساني ولا يحترم
شيخوخيتها، بل كل هم النظام أخذ اللقطة لعرضها في مسرحيته الفاشلة التي غابت عنها
طوابير الناخبين، رغم العربات التي كانت توزع الوجبات الغذائية على الأهالي لتحثهم
على المشاركة، والخمسين جنيها التي كانت توزع في بعض المناطق.. كل هذا يحدث رغم
الصمت الانتخابي الذي يحدده القانون ويمنع الدعاية أمام اللجان، ولكن منذ متى يطبق
القانون في مصر؟!
نظرا
لهزلية المشهد الانتخابي، دعت قوى سياسية عديدة لمقاطعة الانتخابات التي لا يوجد
فيها إلا مرشح أوحد، مما أفقدها روح المنافسة الحقيقية وجعلها أقرب إلى الاستفتاء،
حتى أن السيسي نفسه دعا في خطابه إلى نزول الناس حتى لو قالوا "لا"! إذن
السيسي يعلم أنها ليست انتخابات، بل إنه أراد أن تكون استفتاء، وسخّر كل أجهزة
الدولة لتسويق ذلك بين الناس. لقد أعاد البلاد إلى عصر الاستفتاء على رئيس
الجمهورية الذي ينجح بنسبة 99 في المائة، فهو لا يزال يعيش في ثلاجة الستينيات وفي
جلباب عبد الناصر ويحلم بشعبيته وإن كان حلمه الذي تنبأ فيه بحكم مصر كان مع أنور
السادات وليس عبد الناصر!
لقد
اشتغلت الآلة الإعلامية طوال الفترة الماضية لإظهار ما أسموه إنجازات الرئيس في
الفترة الأولى من رئاسته. وكما يقولون، فإن المعنى في بطن الشاعر، فهذه الإنجازات
التي يتكلمون عنها ويفردون لها البرامج والأفلام الوثائقية لم يرها المواطن على
أرض الواقع ولم يحس بها، بل رأى ترديا في الأوضاع السياسية والاقتصادية.. إنه يكدح
من أجل لقمة عيشه التي أصبحت لا تكفي أسرته، ويعيش في كبد، وأكثر من نصف الشعب
يعاني من الفقر والحرمان، وقد سبق أن عايره السيسي نفسه بفقره، وذلك في إحدى
لقاءاته السابقة منذ ما يقرب العام، قائلا: "ما حدش قالكم إنكم فقرا؟ لا انتم
فقرا قوي فقرا قوي قوي".
ومن
المؤكد أن أجهزة الاستخبارات المعنية برصد آراء الشارع المصري قد أبلغته بعدم رضى
المواطن العادي عن فترة رئاسته الأولى، وقد اعترف في لقائه التلفزيوني الذي أعد
خصيصا للانتخابات؛ بتراجع شعبيته، ولكن طبعا عللها بالقرارات الاقتصادية الصعبة
التي اضطر لاتخاذها في إطار الإصلاح الاقتصادي الذي يقوم به من أجل الأجيال
القادمة، وربما هذا ما جعله يخشى من عزوف المواطنين عن المشاركة في الانتخابات،
وهو ما سبب له هذا الهلع الذي دفع بكل أجهزة الدولة إلى حشد الجماهير خلفه، على
الرغم أن كل شيء مجهز لفوزه الساحق، والصناديق معدة سلفا ككل الانتخابات منذ
انقلاب تموز/ يوليو 1952، مما جعلها أقرب إلى الملهاة منها للحقيقة!
المرة
الأولى والوحيدة التي شهدت فيها مصر انتخابات حرة ونزيهة، ونزلت جماهير الشعب
بالملايين من تلقاء نفسها لتنتخب مرشحها بإرادتها الحرة من بين 12 مرشحا رئاسيا،
كانت عام 2012، التي فاز فيها الرئيس محمد مرسي، ليصبح أول رئيس مدني منتخب منذ
سبعة آلاف عام. ولهذا تآمر عليه الداخل والخارج، وقاموا بانقلاب ضده ووأدوا
التجربة الديمقراطية الوليدة في مهدها، ليعود المشهد كما كان منذ ستين عاما،
ولنعيش تلك المسرحية الهزلية التي تبحث عن ناخبين لتجميل صورتها أمام العالم الذي
يعرف أكثر منا أنها مسرحية هزلية ويضحك عليها.. حقا لقد أصبحنا أضحوكة العالم!