إنها «حرب الجواسيس» أو «الحرب الديبلوماسية» بين روسيا والغرب. و «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين ودول في أوروبا. و «حرب الاتفاق النووي» مع إيران، بعد التلويح بـ «حرب» مع كوريا الشمالية يبدو أنها بدأت تبرد. وتشتعل تحت شعار «الحرب على الإرهاب» مواجهات تنخرط فيها قوى إقليمية هنا وهناك، من ليبيا إلى اليمن وسوريا وأفغانستان. وتتصاعد «حرب العقوبات»... لكن هذه الدينامية الجديدة التي تعتري العلاقات الدولية، تظل قاصرة عن بعث «الحرب الباردة» بنسختها المعروفة. ثمة فرق كبير بين الحنين إلى الزمن الذي طبع القرن الماضي قبل انهيار الاتحاد السوفياتي والزمن الراهن وما يتصف به البحث عن نظام جديد من توترات وأزمات وتعقيدات. تبدلت الظروف والأفكار وخريطة توزيع القوى والمصالح المتداخلة. وتبدلت الأهداف والأدوات. لم يعد العالم منقسما بين نموذجين أيديولوجيين في الفكر والحكم والاقتصاد أججا الصراع بين الكتلة الغربية الرأسمالية والاشتراكية السوفياتية. ثمة قوى صاعدة لم تعد ترى حاجة إلى الاصطفاف وراء أحد القطبين اللذين طبعا خريطة الكرة بلونين وحيدين، إلى حد لم تستطع معه قوى «عدم الانحياز» أن تجد لها مكانا راسخا بينهما.
إنها «حرب» بين أقطاب تتنافس على إدارة شؤون العالم وتقاسم مناطق النفود من أجل حماية مصالحها الاقتصادية والتجارية. ولم تقم إثر وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. سلفه الرئيس باراك أوباما أدخل تغييرا جوهريا على السياسة الاستراتيجية لبلاده. ذهب بها نحو الشرق البعيد لمواجهة صعود الصين وسيطرتها العسكرية. ورفعت ديبلوماسيته الصوت عاليا تحذيرا من استعمار صيني لإفريقيا. وانسحب من معظم الحروب العسكرية السابقة التي خاضها سلفه جورج بوش الإبن، من أفغانستان والعراق وابتعد من سوريا وغيرها من الدول العربية التي عصفت بها رياح التغيير. وهكذا ترك فراغا تسابقت إلى ملئه روسيا وإيران وتركيا، وتصارعت قوى أخرى في كل المنطقة العربية لتعزيز نفوذها تحت شعار حماية «أمنها الوطني» أو فضائها الأمني. ولم تنحصر «حرب الأقطاب» بالقوى الخمس الكبرى أو بالقوى الإقليمية في الشرق الأوسط. ثمة قوى صاعدة في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا من الهند وكوريا الجنوبية إلى جنوب إفريقيا والبرازيل وغيرها، عبرت عن تطلعاتها وحرصها على حجز دورها في إدارة شؤون العالم. هذا السباق عزز مرحلة العودة إلى «حضن القومية». وهو ما سعى إليه الرئيس فلاديمير بوتين أكثر من سعيه إلى مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة أو أوروبا. وتكرر موسكو باستمرار أنها لا ترغب في «حرب باردة». فما تروج له هو حماية النظام القائم، واستعادة موقع البلاد وشراكتها في إدارة شؤون العالم. لعلمها الأكيد بأن لا طاقة لها ولا قدرة على سباق تسلح جديد وانتشار عسكري في الخارج لا مقومات اقتصادية يستند إليها.
والسعي إلى حماية النظام طموح النخب الحاكمة في الجمهورية الإسلامية التي تتمدد غربا نحو شبه الجزيرة العربية وشاطئ المتوسط، وشرقا نحو أفغانستان وآسيا الوسطى. وهو ما يعزز مشروع العودة إلى العثمانية الجديدة التي تراود الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية». وحتى الاتحاد الأوروبي ينتابه القلق من تفكك منظومته بعد خروج بريطانيا. وهو يعيش هواجس صعود قوى اليمين المتطرف، وسياسات موسكو وسعيها إلى تفكيك القارة القديمة تحت شعار حماية مصالحها القومية و«فضاءاتها» الأمنية كلما اقترب زحف حلف «الناتو» من حدودها «السوفياتية». ولم يكن الرئيس ترامب بعيدا من هذه الموجة. فهو يرفع شعار «أمريكا أولا». وبهذا السيف نقض وينقض اتفاقات دولية تتعلق بالمناخ وحرية التبادل التجاري، وآخرها سعيه إلى الخروج من الاتفاق النووي مع إيران. وكذلك الصين التي باتت تحتل موقع القوة الاقتصادية الثانية دوليا، لا يعنيها كثيرا قيام تحالف تدعو إليه مثلا الجمهورية الإسلامية لاتقاء الخطر الداهم من الإدارة الأمريكية الحالية. ولا يعنيها أن تواكب سعي الرئيس بوتين إلى استعادة مجد تليد لروسيا. ما يهمها بناء أكثر من «طريق الحرير» في آسيا وإفريقيا وباقي القارات.
الصراع على النظام الدولي الحالي يؤجج حروبا دموية في مناطق عدة، لكنه لا ينذر بمواجهات شاملة، وإن قرأ العالم بقلق ملء الرئيس ترامب إدارته بالوجوه المحافظة الأكثر تشددا، من وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو إلى مستشار الأمن القومي جون بولتون، الذي التقاه زميله وزير الدفاع جيمس ماتيس ممازحا «أنتم الشيطان المتجسد!». بل إن الرئيس الأمريكي فاجأ متابعيه قبل يومين بإعلان عزمه الانسحاب من سوريا قريبا جدا، بخلاف كل مواقف واشنطن السابقة أن القوات الأمريكية باقية في هذا البلد لمنع عودة «داعش» و «القاعدة» وحرمان إيران من تعزيز مواقعها في بلاد الشام. سيد البيت الأبيض الذي لا يمكن التنبؤ بخطواته ومواقفه، يتباهى بأن سياسة التشدد والتلويح بالقوة أثمرت في تعزيز دور الديبلوماسية. قد يكون الأمر صحيحا، لكن الصحيح أيضا أن قدرة بلاده على قيادة العالم وحيدة أمر بعيد المنال، خصوصا إذا كان لا يرغب في إنفاق المزيد من التريليونات في حروب لم تجن منها بلاده شيئا، على حد تصريحه. كما أن الدول المعنية بتهديداته لا ترغب في مواجهات عسكرية، بقدر ما يدفعها إلى التكتل في مواجهته، خصوصا إيران وروسيا وكوريا الشمالية.
أعلن العالم تمسكه باتفاق باريس للمناخ ردا على انسحاب إدارة ترامب منه. وها هو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يعلن أن الولايات المتحدة تعمل على المسار الصحيح لتحقيق أهداف الاتفاق على الرغم من قرار انسحابها. وتبادل الرئيس ترامب ونظيره الكوري الشمالي كيم جونغ أون التهديدات باندلاع حرب نووية، وها هما يستعدان للقاء قمة قريبا. وقد لا يعني ذلك أن اتفاقهما بات حتميا أو أن بيونغيانغ ستتخلى بسهولة عن برنامجها النووي والصاروخي. ما تحقق عمليا أن زيارة الزعيم الكوري الشمالي الصين عززت العلاقات بين البلدين. بكين ماشت العقوبات الدولية على جارها الجنوبي. فهي بقدر ما تسعى إلى بقاء المنطقة خالية من السلاح النووي، لا ترغب في خطوات توحيدية بين الكوريتين تعزز النفوذ الأمريكي على حدودها الجنوبية. كما أنها تود الظهور بمظهر الملتزم بالقرارات الدولية والساعي إلى نشر الاستقرار، وتطمئن بذلك غريمتها واشنطن، وتعزز موقفها التفاوضي في «الحرب التجارية» التي يقودها الرئيس ترامب. في المقابل، يدرك كيم جونغ أون حاجته الماسة إلى دعم الصين وضماناتها الأمنية والاقتصادية لنظامه، قبل قمته المرتقبة مع نظيره الأمريكي، وعشية القمة بين الكوريتين.
وعلى جبهة «الحرب الديبلوماسية»، لا تبدو موسكو راغبة في توسيع جبهة المواجهة مع العالم، إثر اتهامها واشنطن ولندن بافتعال «حرب الجواسيس». تعتمد سياسة التريث، وتعلن ترك الأبواب مفتوحة لمعالجة ما لحق بعلاقاتها مع أمريكا ومجموعة كبيرة من الدول الغربية. وقال ديمتري بيسكوف الناطق باسم الكرملين، إن الرئيس الروسي بوتين لا يزال يحبذ إصلاح العلاقات مع الدول الأخرى، على الرغم من تبادل طرد عشرات الديبلوماسيين. كما أن الدول الأوروبية لا ترغب هي الأخرى في الذهاب بعيدا في مواجهة روسيا، لأنها تخشى أن تعود ساحاتها ميدان مواجهات عسكرية إذا تفاقمت الأوضاع. وتعتقد موسكو بأن الوضع في سوريا وراء ما يحدث. وقد ردت على ذلك بتسعير الحرب في الغوطة وغيرها. لقد أقلقها سعي واشنطن إلى ترسيخ أقدامها في سوريا، لمنعها من استخدام وجودها في هذا البلد منصة انطلاق إلى «الشرق الأوسط الكبير» كله. وكذلك منع إيران من بناء جسرها البري إلى البحر الأبيض المتوسط. ولا تحتاج إلى استعادة المواقف المتشددة والمعروفة لوزير الخارجية الجديد بومبيو والمستشار بولتون.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن أمريكا ستكون قادرة على تقليص نفوذ روسيا والجمهورية الإسلامية في بلاد الشام، فقد حقق تدخل العاصمتين ميدانيا، إضعافا كبيرا للمعارضتين المسلحة والسياسية. كما أن تركيا الحليف التاريخي المفترض للولايات المتحدة والعضو في حلف شمال الأطلسي، تبدو بعيدة من أداء دور يساعد هذا الحليف على تنفيذ سياساته حيال «شريكيها» في أستانة، ما لم يتخل هذا الحليف عن دعمه الكرد. في حين أن هؤلاء هم إلى الآن ضمان قوة الوجود الأمريكي القوي والضاغط في سوريا. فالمسألة إذا تتعدى سياسة صقور الإدارة إلى النظر في وسائل تحقيق هذه السياسة. فهل يكون إعلان ترامب الانسحاب قريبا من سوريا موقفا جديا جديدا، أم مجرد محاولة تبريد، أم تحوطا لمواجهة ميدانية تهدد طهرانُ وحلفاؤها باستهداف القوات الأمريكية في سوريا والعراق؟
أما «الحرب على الاتفاق النووي»، فلا تزال بعيدة من استقطاب حاد بين الدول المعنية بهذا الاتفاق. أوروبا لم تتفق بعد على فرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها الصاروخي وتدخلاتها في سوريا والمنطقة، ومدها الحوثيين بصواريخ يطلقونها باتجاه المملكة العربية السعودية. علما أنها تستعجل إجراءات للضغط على طهران من أجل دفع الرئيس ترامب إلى التريث والحفاظ على الاتفاق النووي. وهي تدرك أن حزمة من العقوبات قد لا ترضي الإدارة، بل ستفاقم الصراع الداخلي بين القوى السياسية في الجمهورية الإسلامية، وتدفع التيار المحافظ إلى مزيد من التشدد. وقد بدت مظاهر ذلك في موجة الصواريخ التي أطلقها الحوثيون باتجاه السعودية الأسبوع الماضي «حروب الأقطاب» مفتوحة من كوريا إلى سوريا، ولا يحتاج المتصارعون إلى «حرب باردة» لا يرغب فيها أحد ولا مقومات لها.
الحياة اللندنية