تتأسس هذه القراءة على اعتبار التدخل المزمع في سوريا مرحلة جديدة في عودة الاستعمار إلى المنطقة والهدف هذه المرة ليس سوريا بل دول الخليج العربي ومنابع النفط. قد تبدو القراءة للوهلة الأولى مقاربة قصوى تذهب إلى أبعد نقطة ممكنة في التحليل لكنها تستقي إمكانية تجسيدها من جملة المعطيات التالية على الأرض:
إن التهديدات الأمريكية الأخيرة بضرب مواقع النظام السوري بسبب استعماله للأسلحة الكيماوية ضد شعبه تعتبر حجة ضعيفة بل سخيفة جدا وذلك لجملة من الأسباب. النظام الطائفي في دمشق يقتل شعبه بكل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا منذ سبع سنوات وهو ما يجعل الاستفاقة المتأخرة للمجتمع الدولي ضربا فاخرا من النفاق الذي يفضح زيف الشعارات الداعية لحقوق الانسان وحماية المدنيين.
لقد كانت الثورة السورية على وشك الانتصار وكان الثوار على أبواب دمشق عندما قرر نفس المجتمع الدولي مساندة نظام الأسد عسكريا ومنعه من السقوط. تم الاتفاق بين الروس والايرانيين وبضوء أخضر غربي طبعا منع سقوط الأسد عندما كانت الثورات العربية في أوجها. بناء على هذا الاتفاق غير المعلن تدخلت المليشيات الإيرانية وحزب الله ومختلف الفرق من أجل إسقاط ثورة سوريا السلمية في الدماء فتحولت إلى حرب النظام والجيش وحلفائه ضد الشعب. ثم صُنعت بعد ذلك المجموعات الإرهابية وخاصة داعش التي خرجت من أقبية المخابرات السورية لتصنع فصلا جديدا من التوحش الذي سيبرر فيما بعد التدخل العسكري الخارجي باسم الحرب على الإرهاب.
يتمثل المعطى الثاني في دور ثورات الربيع العربي باعتبارها جزءا من المسار السياسي والحضاري للأنظمة السياسية وكذلك جزءا من حركة التاريخ لدول المنطقة. مثلت الثورات في مجملها مفاجأة كبيرة لمنظومات الاستعمار العالمية وكذلك للأنظمة الاستبدادية العربية بما هي أنظمة وكالة للقوى الخارجية. هذا الطابع الفجائي وغير المنتظر طرح فجأة فكرة قابلية الأنظمة الاستبدادية العربية للسقوط أو بتعبير آخر طرح فكرة الفراغ الذي سيتركه سقوطها وإمكانية قيام أنظمة ديمقراطية شرعية تستطيع تحرير الثروات وبناء السيادة الوطنية من جديد.
هذا الهاجس هو الذي سرّع من وتيرة المشاريع الاستعمارية في المنطقة والتي رأت في بث مزيد من الفوضى والخراب مدخلا أساسيا لمنع أي تحول ديمقراطي حقيقي في المنطقة العربية يسمح بتحرر الانسان من ربقة المنظومات الاستبدادية. المنظومات الاستبدادية العربية هي الحارس الأمين لثروات الأرض وهي التي تمنع الإنسان العربي من التحرر ومن تأمين هذه الثروات وتحويلها لصالحه ولصالح نهضته.
أما ثالث المعطيات فيتجلى فيما أفرزته الانقلابات على ثورات الربيع العربي من معطيات جديدة. تمثلت هذه المعطيات أساسا في قابلية الأنظمة العربية الغنية للتفويت في ثرواتها وفي سيادتها من أجل البقاء في السلطة وقابليتها لدفع أموال طائلة في سبيل ذلك. بناء عليه فقد تجددت شروط الاستعمار القديم بما هو نهب للثروات ومصادرة سيادة الدول لكن تحت مسميات جديدة وليس الحضور الروسي في سوريا والحضور الأمريكي في كامل المنطقة إلا طريقا من طرق تقاسم الكعكة العربية التي نضجت بفعل ثورات الربيع. أفرز الربيع العربي كذلك حقائق كبيرة حول دور النخب العربية وانهيار الحياة السياسية الداخلية وقابلية النخب العسكرية والأمنية للتطويع من أجل تمرير المشاريع الانقلابية بما يسهل تجدد المشروع الاستعماري.
المعطى الأخير هو أن انهيار البوابة السورية بعد البوابة العراقية يكشف أن الطريق بات مفتوحا أمام الخزائن الخليجية وأبار النفط. لكن لمعترض أن يقول إن دول الخليج العربي كانت كلها تقريبا واقعة تحت النفوذ الاستعماري منذ زمن بعيد وأن المسألة ليست جديدة. الجديد اليوم هي صفقة القرن التي ستمر عبر البوابة الخليجية أولا وخاصة بعد ما رأينا من هرولة النظام الجديد في السعودية للتطبيع مع إسرائيل إثر الانقلاب الدموي في مصر. الجديد أيضا هو أن النزاع على مصادر الطاقة لا يقتصر على القوى الكلاسيكية القديمة وإنما يشمل أيضا القوى الصاعدة وهي أساسا الصين وروسيا الاتحادية التي تريد أن تجدد نفوذها في المنطقة وتدفع قواعد الحلف الأطلسي بعيدا عن حدودها.
لقد رسمت السياسة الأمريكية عصرها الجديد منذ غزو العراق على تأمين مصادر الطاقة لا فقط بما هي عصب اقتصادي مركزي ولكن أيضا بما هي مصدر من مصادر الثروة المباشرة التي تمول مصانع الأسلحة عندها مثلما أكدت ذلك الصفقات الأخيرة التي أبرمتها إدارة ترامب مع النظام الجديد في السعودية.
إن الانقلاب الناجح في مصر والانقلاب الفاشل في تركيا وحصار قطر إنما تدخل جميعها في محاولة الإعداد للنسخة الجديدة من معاهدة سايكس بيكو الشهيرة وذلك بإعادة توزيع الأدوار والنفوذ في المنطقة. وهنا لا تعلق المسألة فقط بمشاريع إعادة الإعمار في سوريا واليمن والعراق فقط وإنما تتعلق بالحضور المباشر على الأرض من أجل السيطرة على مصادر الطاقة وتأمين صفقة القرن الجديدة التي تُلغي القضية الفلسطينية وتفتح المنطقة العربية على مصير التفتت والتحلل.
إن تغافل الدول العربية وخاصة منها الخليجية عن هذه الحقائق وعن كونها تعيش لحظة مفصلية في تاريخها سيجعل من الثمن الذي ستدفعه ثمنا باهظا جدا بما فيه عروشها التي تدافع عنها. ما لم تتجاوز الدول الخليجية خلافاتها البينية وما تتجاوز حالة التشرذم والتناحر والاقتتال الإعلامي والدبلوماسي فإنها ستكون الهدف القادم للمشروع الاستعماري المتجدد. لم تكن حرب الخليج الأولى والثانية إلا لصالح المشاريع المعادية للأمة وعلى رأسها المشروعان الإيراني والصهيوني وكذلك الحرب التي شُنت على ربيع الشعوب من قبل الثورات المضادة وداعميها لن تكون إلا في صالح مشاريع أعداء الأمة من جديد.