منذ وعد بلفور المشؤوم إلى يومنا هذا والشعب الفلسطيني يمارس المقاومة بكافة أشكالها ولا سيما منها المقاومة الشعبية، فالإضراب العام الذي نفذ عام 1936 كان من أبرز أشكال المقاومة الشعبية التي مارسها الشعب الفلسطيني قبل النكبة، حيث أرهق الانتداب البريطاني، إلا أن هذا الإضراب السلمي لم يكن الأداة الوحيدة في المواجهة بل كان رافعة لانطلاق وإسناد الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 والتي لم تنتهِ إلا بتخاذل عربي ومكر بريطاني.
ولعل يوم الأرض عام 1976 يعد نموذجا آخر من المقاومة الشعبية حين انتفض أهل الداخل الفلسطيني بوجه الاحتلال احتجاجا على مصادرة الأراضي في منطقة الجليل، فقدم الشعب الفلسطيني خلال هذه الهبة 6 شهداء وعشرات الجرحى إلا أن هذا اليوم شكل منعطفا جديدا في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل الفلسطيني المحتل.
أما في العصر الحديث فشكلت الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 علامة فارقة في مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني من حيث الشكل والأسلوب والديمومة، إذ أخذت شكل المسيرات والمظاهرات والمواجهات مع الاحتلال إضافة إلى الإضرابات، لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه المقاومة الشعبية لم تكن هي الأداة الوحيدة في المواجهة أيضا بل كانت هناك خلايا عسكرية مسلحة تعمل سرا وتقوم بضربات موجعة للاحتلال، وكان هناك أيضا شتات فلسطيني يدير المعركة من الخارج ويقدم لها كل سبل المساعدة للبقاء على قيد الحياة، ورغم كل سياسات القمع الصهيونية التي استخدمت إلا أنها لم تستطع إضعاف جذوة الانتفاضة إلى أن اغتيلت برصاصة تمثلت في اتفاقية أوسلو.
وفي الأمس القريب عشنا تجربة هبة باب الأسباط التي اندلعت لمواجهة فرض واقع صهيوني جديد على المسجد الأقصى، وقد شارك في هذه الهبة أبناء القدس من مختلف الاتجاهات والخلفيات الحزبية والاجتماعية وحتى الطائفية إلى أن انتهت بانتصار تمثل في وقف الأجراءات الصهيونية التي كانت ستتخذ.
واليوم ها نحن نعيش بأجواء جديدة وشكل جديد من المقاومة الشعبية الفلسطينية تتمثل في مسيرة العودة الكبرى والتي اتخذت شكل الرباط على الحدود ما بين قطاع غزة وأراضينا المحتلة سنة 1948، وقد ضرب خلالها الشعب الفلسطيني في القطاع أسمى أيات النضال والصمود بكافة شرائحه كما وتجلت فيها الوحدة الوطنية ما بين الفصائل الفلسطينية والشخصيات الاعتبارية ونشطاء المجتمع المدني، إذ يقدم أبناء القطاع أسبوعيا قوافل من الشهداء وكل جمعة يخوضون تجربة جديدة وشكل جديد.
أما النتائج المأمولة من مسيرة العودة الكبرى هو أن تكون شرارة لانطلاقة جديدة في مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني وأن تخلق رأياً عاماً دولياً وأن تلفت الأنظار إلى قطاع غزة الذي أرهقه الحصار، وأيضا أن تكون الصفعة التي ترد على صفقة القرن.
غير أن هذه الصفعة تحتاج إلى عضلات قوية لتكون مؤلماة وعنيفة ومؤثرة، فالاعتماد على سياسة اللاعنف ليس بالأمر السليم فلو عدنا لما يقوله المهاتما غاندي منظر المقاومة السلمية فسنجده يقول: "إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إخصاء عرق بشري بأكمله"، وهذا العنف مطلوب بالدرجة الأولى اليوم من الضفة الغربية عبر التصعيد في العمل المقاوم بأشكاله المختلفة لا سيما منها الأعمال العسكرية التي تعتمد على العمليات الدقيقة وخلق الابتكارات الأمنية التي تساهم في الإفلات من القبضة الاستخبارية الصهيونية وقبضة التنسيق الامني.
أما الداخل الفلسطيني فعليه استعادة دوره في المقاومة وأن يكون حاضرا وبقوة في معركة مسيرة العودة من خلال خلق حالة بلبلة في عمق الاحتلال عبر أشكال مختلفة من المقاومة الشعبية.
والشتات الفلسطيني الذي يعد الخزان البشري والاقتصادي والأكاديمي الأكبر عليه أن يرتقي عطاؤه لحجم القضية الفلسطينية وأن يكون رافعة أساسية في إفشال صفقة القرن وفك الحصار عن قطاع غزة والانخراط بشكل فعال في مشروع وطني حقيقي، وهذا يتطلب عملا جماعيا ومنظما، وأعتقد أن هذا العمل يقع على عاتق الفصائل والمؤسسات الفلسطينية المنتشرة في كافة أماكن الشتات، إضافة إلى مؤتمر فلسطيني الخارج الذي ما زال إلى اليوم دون أثر على الأرض.
ونهاية إذا بقي أهل غزة لوحدهم في الميدان وهم الساعد الوحيد الذي يصفع الاحتلال وصفقات العرب والأمريكان كما ذكرنا سالفا، فهذا الساعد سيبقى ضعيفا والضربات المتتالية عليه ستؤدي إلى الشلل والفشل في كل الجسم الفلسطيني، وعلى الشعب الفلسطيني أن يعي وأن يستفيد من التجارب السابقة التي انتهت باغتيال داخلي أو تخاذل رسمي عربي فلا نريد أن يعيد التاريخ نفسه بل المطلوب تاريخ جديد وحاضر مقاوم لمستقبل حر.