هل ثمة حاجة إلى استحضار روح
"الخلدونية" في ضوء ما يعيش المجتمع العربي من مظاهر الانكماش والتكَلّس
وضعف الوضوح في استشراف المستقبل؟ وهل الاستحضار ممكن والمسافة التي تفصلنا عن
وفاة العلامة "عبد الرحمن بن خلدون" ستة قرون وأكثر من عشرين سنة (1406 - 2018)؟
من يطالع متون المقدمة يلمس حضورَ الموضوعات المركزية
المشكِّلة للمنظومة المعرفية الخلدونية ضاغطةَ على واقِعنا العربي ومستحكِمة في
إمكانيات تطوره. فأصالة صاحب المقدمة تتجسد في ديمومة الاهتمام بفكره شرقاَ
وغرباَ، وإن جاءت الاستعادةُ لمظان مشروعه
متأخرةَ في أوروبا والوطن العربي على حد سواء. لذلك، تكمنُ الحاجةُ اليوم إلى استلهام
المتن الخلدوني في تفسير ما يعتملُ داخل الواقع العربي دولاً ومجتمعات. فحين يُطالع
المرءُ كتابات العلاَّمة "
ابن خلدون"، خصوصاً مقدمته، يشعر بثقل
التاريخ
وضغطه على مسار التطور في البلاد العربية، كما يُدرك وزنَ الموروث الثقافي
والتاريخي في فهم تعقيدات الوضع العربي الراهن. ومع أن ابن خلدون لم يستعمل مفهوم"
التأخر التاريخي" (Retard
Historique)، في ما ترك لنا من تحليلات
عميقة، فقد تضمَّن متنُهُ عناصرَ كثيرة تصُبُّ في فحوى المفهوم دون إعتمادِه
مباشرة، كما دأبت العلوم الاجتماعية على توظيفه لاحقاً.
يقود الفهم الظاهري لمفهوم التأخر التاريخي إلى الاعتقاد
بأن المقصود به توقف في وتائر النمو، سبق حصوله في التاريخ العربي خلال حقبة
محددة، وأن الطريق إلى تجاوزه يتوقف على استدراك ما لم يتم إنجازُه وتحقيقُه. إن
الأمر أكثر من أن يكون مجرد استدراك لما غدا عصيا إدراكه، فالتأخر حالة تاريخية
عميقة ومركبة، يتقاطع في ترتيبها الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة. لقد شكلت
نصوص ابن خلدون شهادة تاريخية على هذا الوضع المحجوز، وإن حكم تحليلاته الطابعُ
المعياري الأخلاقي، بدل المنهجية
الممسِكة بمصادر التأخر التاريخي، كما شرعت في التبلور يومئذ.
يمكن الوقوف عند ثلاثة مؤشرات لملامسة هذا الوضع في
مقدمة ابن خلدون: إحساسُه العميق بتبدّل أحوال الناس وأفول عمرانهم: "فقد
انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة... وكأني بالمشرق قد نزل به
ما نزل بالمغرب... وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر
بالإجابة...". وضمن منطلق الانهيار،
يتحدث ابن خلدون عن أخلاق الناس وقيمهم الجديدة، فيقول: "... وأهل الحضر
لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على
شهواتهم منها، وقد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق
الخير ومسالكه، بقدر ما حصل لهم من ذلك، حتى لقد ذهبت عنهم الحشمة في أحوالهم..".
فهكذا، نقرأ إحساسه بتوقف التطور وتكلس عمرانه، في تقديره ثقل قوى الإنتاج من
فلاحة وتجارة، إذ يقول: "وأما فوائد العقار والضياع فهي غير كافية لمالكها في
حاجات معاشه، إذ هي لا تفي بعوائد الترف وأسبابه، وإنما هي في الغالب لسد الخلة
وضرورة المعاش".
إن عمقَ المتن الخلدوني لا ينحصر في العناصر المومأ
إليها أعلاه، بل يتجاوزها إلى مصادر أخرى على درجة بالغة الأهمية في تفسير واقع
تأخر العرب والمسلمين، وهو ما يمكن الإحساس بحضوره راهناً على الرغم من مرور أكثر
من ستة قرون على وفاة صاحب المقدمة. فمرة أخرى، ودون أن يستعمل مفهوم القطيعة بين
المجتمع السياسي (السلطة) والمجتمع المدني أو الأهلي، يجعل ابن خلدون العلاقةَ بين
الظلم وزوال السلطان، علاقة سبب بنتيجة. فمن جهة، يتحدث عن صعوبة تكوّن الطبقة
القادرة على رفع مشروع بناء الدولة والمجتمع بناءً متماسكاً وواضحاً في الفضاء
العربي الإسلامي، الأمر الذي أفقد البلادَ العربية حظوظَ التطور التاريخي، أسوةً
بما حصل في دوائر حضارية مغايرة.. لذلك، كان عجزُ الفئة المتمكِّنة من مصادر
الثروة، من استثمار الفائض وتوظيفه بشكل منتج، عاملاً مفسراً لاستحالة قيامها بوظيفة التوازن بين السلطان والارستقراطية القبلية، ذلك التوازن الذي اعتمده ابن خلدون مؤشراً
مؤذناً بخراب العمران: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم
في تحصيلها واكتسابها... وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي
في الاكتساب".
من هنا، سعت العديد من الاجتهادات إلى إعادة قراءة المتن
الخلدوني لصياغة تفسيرات أكثر عمقاً لواقع التأخر التاريخي العربي الإسلامي، كما
هو حال "عبد الله العروي"، الذي وَسِمَ نظرة صاحب المقدمة بكونها لم تكن
سوى عرض عقلاني للمحاولات الإمبراطورية الثلاث، وليس تفسيرا للتاريخ السابق للقرن
الحادي عشر. فالقصور النظري للطرح الخلدوني في تفسير هذه الحقبة من تاريخ البلاد
العربية (أواسط القرن الرابع عشر)، المتميزة بالانفصام الجلي للسلطة السياسية عن
المجتمع المدني، راجع إلى كون ابن خلدون كان يجهل تاريخ الشعوب الأخرى لدول البحر
الأبيض المتوسط، في حين، يشدد العروي، لا يمكن فهم الانفصام الذي شكل واقعاً
موضوعياً مرئياً إلا بطرحه في إطار صنفين من الأسباب: داخلية وخارجية. فالأولى
ليست هي النزاعات مع البدو، بل تكمن في محددات أخرى: الوضع الديموغرافي، الزراعي،
والتجارة عبر الصحراء. أما الثانية فيمكن فهمها من خلال الكشف، عن موازين القوى في
البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة الفاصلة بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر،
وهي تحديدا: ضعف الجهة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط (بيزنطة والعالم الإسلامي)،
مقابل تنامي وتصاعد أوروبا الغربية.. وفي
الظن، لا زالت هذه المعادلة المفسِّرة نسبياً لدائرية التاريخ العربي الإسلامي
وتأخر مجتمعاته ضاغطةً حتى اليوم، الأمر الذي يبرر الحاجة المتجددة لإعادة قراءة
المتن المؤسِّس للمنظومة المعرفية الخلدونية.