على الرغم من أن ونستون كان يدرك تماما أنه يرتكب جناية ستعرضه للقتل المحتم في حال أنه قٌبض عليه متلبسا وهو يكتب مذكراته، إلا أنه غامر بذلك لعدم قدرته على تحمل هذا النمط المقيت من الحياة التي يعيش بؤسها في لندن. يبدو أن هجوعه لذلك كان المتنفس الوحيد، فقد كان يعبر من خلال الكتابة بأن هناك عالما آخر ممكنا للعيش، ومختلفا عن النمط الذي اعتاد الناس أن يعيشوه في بلدته.
كانت لندن في الفترة تلك؛ مدينة ترزح تحت الفقر والتعاسة والكبت.. لا أحد يتجرأ على أن يُعارض ما تريده إرادة الدولة؛ المتمثل حكمها في سلطة الحزب الواحد الذي يقوده الأخ الأكبر، بوزاراتها الأربع: الحب، تعذيب وغسيل دماغ، الوفرة، ترشيد الاستهلاك.
لم يكن بمقدور ونستون أو غيره التخيل كيف كانت الحياة قبل أن تسيطر هذه الحكومة على مقاليد الأمور. لقد أعيدت كتابة التاريخ مجددا، ممسوحا منه كل أثر للماضي، مرفقا بصور تملأ الدنيا.. مكتوبا عليها "الأخ الأكبر يُراقبك"، دخلت أجهزة المراقبة تفاصيل الحياة، عبر كاميرات وأجهزة تنصت. التلفاز، مفروض أن يبقى مفتوحا ليتأكد الناس أنهم فعلا مراقبون عبره، ومن جهة أخرى، ليتمتع الناس بما تبثه سلطات الإعلام من برامج تُمجد السلطة الحاكمة.
في عودة لونستون ومذاكراته، نرى أن اهتمامه كان منصبا على شخصيتين فقط: جوليا، الفتاة الجذابة التي تعمل معه في المبنى نفسه، لكنها أبعد عن المنال، وقد تكون شخصا متورطا مع النظام، لذا كان خائفا منها، وبالوقت نفسه منبهرا بها، بينما الكتابة عن أوبراين، الشخصية الأخرى التي اهتم بها ونستون، كانت توحي بأنه شخص عاقل ولا بد أنه سيفهم توق ونستون للعيش بطريقة أخرى.
اللافتة التي فاجأت جوليا ونستون بها، والتي كتبت عليها أنها تُحبه، كانت قد زلزلت حياته ونقلت مسار الرواية لعالم الحب اللذيذ والمغامرة رغم الخطر المحدق. عاش ونستون وجوليا حلاوة اللقاءات المحمومة في طرف ريفي جميل. تحت المراقبة ولكنه عالم عذب وأخاذ.
أراد ونستون أن يقول لأوبراين إنه يريد الانضمام له كمعارض، متصورا أن دعوة خاصة لمنزل رجل بهذه المكانة لشخص بسيط مثل ونستون، لا بد أن تكون لهذا الشأن السري. فالناس في تلك الفترة تخاف من أن تدعو أحدا لمنازلها. الزيارات من ضمن قائمة الممنوعات.. لا أصدقاء، لا اجتماعات، لا علاقات خاصة، وألف لا ولا.
طبعا أوبراين الذكي استغل سذاجة كل من ونستون وجوليا، مرحبا بهم ومؤكدا أن يقرآ كتاب كولدنيس، ليتم القبض عليهما متلبسين ويُساقا إلى أقبية التعذيب الرهيبة، حيث تسقط تحت فظاعاتها آخر ذرة كرامة عند ونستون؛ الذي يكاد يموت من الرعب والألم.. لقد وشى بدوره بجوليا، ورجا السلطات أن تُعذبها في الغرفة الرهيبة 101 بدلا عنه.
بعد فترة أطلقت السلطات سراح الاثنين، فلم تعد تهتم لأمرهما؛ لأنها تأكدت أنهما أصبحا جاهزين تماما، مثل غيرهما، وقد وصلا لكل ما تريده منهما. لقد دخلا في دائرة المطواعين الممتثلين لكل ما يراد منهم. يظهر الأخ الأكبر ليقول إن ونستون يحبه، فقد أدمن ونستون التصفيق والابتسام عند مشاهدته الأخبار. ونستون تماما أصبح يقول ويعتقد أن اثنين زائد اثنين يساوي خمسة.. لقد نجح أوبراين في تلقينه معنى الحياة التي تريدها سلطته. ونستون وجوليا الآن أحرار، ولكنهما فقدا الحب ومعنى الحياة.
هل ابتعد جورج أورويل في روايته المتخيلة (1984) عن الواقع المعاصر، وخاصة في الدول الفائقة
الديكتاتورية والاستبداد كدولنا؟ لقد بنى أورويل تصوره على كرهه للنظام السوفييتي الذي غطى ملامح بلاده، بسبب
القمع والرقابة والدعاية بالشقاء والبؤس والعبوس.
تلك الرواية العظيمة تُرجمت إلى 65 لغة بحلول عام 1989، بينما نُشرت الرواية عام 1949. بدت متخيلة مصير بريطانيا فيما لو أصابتها لعنة التوليتارية، لكنها أصبحت فيما بعد واقعا أكثر مرارة وأبعد من التصور والخيال، وشاهدا على الوجه المدمر لحرية الإنسان، وهو الرقابة التكنولوجية التي غزت ملامح العالم بفوائدها ودخلت اليوم إلى غرف نومنا، لتعد علينا الحلم والبسمة، وتقيد حياتنا بخطر يحيق بها.
أعتقد أن رواية "1984" رواية تختصر ألم الكاتب من الرعب من فقدان الحب، أمام همجية أنظمة تغوص للنخاع في حبك التفنن لاستمرار الحياة بلا نبض ولا دفء. إنه عالم مجاني تهيمن فيه مرارات الحب.