لا يعلو العمل النضالي، أيّ عمل، على النقد والمراجعة، ومراجعة الوسائل لا يعني أبدا المسّ بالتضحيات ونبل أصحابها، قاعدة كهذه بدهية، لا نختلف عليها، ولكنها ليست كل شيء، فالسياقات الإنسانية أكثر تعقيدا من التعامل معها بالقواعد المجرّدة.
على أيّ حال، علينا أن نتذكر أنّ قطاع غزّة وحده، منذ سنوات، وهو يعاني الحصار والحروب المتصلة، وأنّ أحدا في هذا العالم لم ينفعه بشيء، فإن كنتَ من خارج قطاع غزّة، ومهما كان انحيازك للناس هناك، وانحيازك للمقاومة، حتى وأنت تقف معهم على الأرضية ذاتها، فعليك أن تستدعي كمّ التضحيات الهائل الذي بُذل هناك، ولم يُقابل إلا بالخذلان، أو بالعجز وقلّة الحيلة، وحينئذ، وحينما يقرّر الناس هناك تجريب أيّ وسيلة لفكّ الحصار، فهذا حقّهم الكامل.
أمّا رأيك في نجاعة الوسيلة، أو خطأ الرهانات التي دفعت نحوها، أو خطأ بعض الخطابات التي أحاطت بها، فهذا، وإن كان نقده حقّا في ذاته، فإنّ هذا النقد ملح مسموم؛ ما لم يستحضر السياق كلّه الذي لم أتطرق إلا لبعضه، وهو ملح مسموم يُصبّ على الجرح الغزّي ما لم يتخيّر الوقت المناسب واللغة المناسبة. إذ لا يعقل، ومهما كانت ظروفنا، وتفسيراتنا، فإنّ الحقيقة الأقوى في الواقع، هي الجرح الغزّي المفتوح وحيدا في عراء
الفلسطينيين والعرب.
أمّا إن كنتَ خصما لحماس، أو كانت لديك تحفظات صادقة وأمينة تجاه سياسات حماس، وترى أن خياراتها وسياساتها قادتها إلى أخطاء استراتيجية فادحة، فعلينا أن نتذكر دائما أصل الحكاية، فتناول أيّ حكاية من لحظتها الراهنة هو بتر للحقيقة. نعم، حماس وسياساتها وخياراتها ليست فوق النقد، وهذه بدهية من المعلوم بالضرورة الذي يجرّنا البعض بمصادراته للتأكيد عليه دائما، وكأنّ أيّ رفض لنقده يعني بالضرورة حماية لحماس أو تقديسا لخياراتها.
على أيّ حال، حماس ليست فوق النقد، لكن أصل الحكاية، هو وجود السلطة التي صادرت خيارات الفلسطينيين، وخلقت مجالا سلطويّا في مجتمع يعاني الاحتلال، وبالتالي أسست للانقسام السياسي والمجتمعي، وحملت حماس على خيارين: إمّا أن تظلّ ملاحقة خارج السلطة أو تدخلها، فلما دخلتها لوحقت أيضا بالرفض العملي لنتائج الانتخابات، واستخدم الشعب وسيلة لإسقاطها وتصفية الحساب معها، وانتهجت سياسات سلطوية في الضفة الغربية تعمق الفجوة بين الشعب الواحد؛ بخلق ظروف متباينة على نحو حصر الفعل النضالي الحقيقي في قطاع غزّة، أي حيث حماس.
ثم هذه السلطة لم ترض من حماس لا مقاومتها العسكرية، ولا مقاومتها الشعبية، إذ ظلّ كلّ شيء على حاله، رغم مسيرات العودة السلمية المستمرة منذ 30 آذار/ مارس! ورغم المذبحة في 14 أيار/ مايو، إذن قل عن حماس ما تشاء، ولكن بالله عليك لا تغفل السياق كلّه، فلا يمكن لصاحب ضمير حيّ أن يلوم الضحية، لأنها تحاول أن ترفع السكين عن رقبتها، ولا يوجد سويٌّ يعطيها المحاضرات في فنّ رفع السكين، وهو يكتفي بالفرجة والسفسطة!
ثم مهما كان رأيك في جانب من خطاب الحشد والتعبئة لمسيرات العودة، وما اعتراه من تصورات تراها خاطئة إن حول العدو وآلته التي لا يمكن تحييدها أخلاقيّا، أو حول المبالغة في المراهنة على ضمير هذا العالم الفاسد، أو حول قدرة الجماهير بمحض فعلها السلمي الأعزل، فإنّ الناس لا يحملها أحد على الموت واحتضان الرصاص، فعليك أن تسأل السؤال بشكل صحيح: لم أقدمت أعداد من الجماهير على هذه التضحية؟! باختصار هؤلاء الناس لا يريدون أن يموتوا اختناقا بالحصار، ودعنا نتفق أن الرافعة المعنوية للناس هناك في غزّة ظلت عالية، رغم كل محاولات السحق بالحصار ولقمة العيش، وعليك أن تسأل: لم ظلت عالية هناك من دون الأرض كلّها؟! الإجابة سهلة.
والحال هذه، ومهما كانت أهداف المسيرات ونتائجها، فلنتخيل بؤسنا، وبؤس هذا العالم، لو لم يكن حظّنا من وجودنا إلا الصمت والخيبة، وأمريكا ترسّم
القدس عاصمة أبدية لعدوّنا! والله لقد كانت غزّة بقعة الشرف الوحيدة في هذا العالم، تستر عارنا. صحيح أن هذا الكلام لا يطعم خبزا، ولا يرقأ دما، ولا يلأم جرجا، إلا أنّه حقّ، ومن مزيد شرف غزّة وأهلها أن يبلغ الانحطاط بالناس مبلغه، حتى يكاد الناس يقولون قد ظلّت باقيةٌ على الحق في غزّة؛ في زمن يتصهين فيه كل شيء، أو يستطيب فيه الناس العجز، وهو أشرّ ما يستعاذ منه!