كرهت العائلة المالكة البريطانية، خلال الفترة التي عملت فيها ضابط إعلام ومترجما في السفارة البريطانية في الخرطوم، فقد كنت مكلفا بإصدار نشرة بالإنجليزية، تحمل ملخصا لأهم ما يجيء في الصحف السودانية، وأخرى، كانت ثقيلة على قلبي، بالعربية نقلا عن صحف بريطانية؛ لتوزيعها على القيادات التنفيذية والسياسية والصحف السودانية.
وما جعل تلك النشرة ثقيلة على القلب، هو أنها، في معظمها، كانت تتعلق بما كنت أعتبره أنباء تافهة: الأميرة آن تسقط من حصان/ الأمير تشارلس يثبت أن النباتات تنمو وتزدهر إذا خاطبها الإنسان، أو أسمعها الموسيقى الكلاسيكية.
وبما أن مستشار السفارة كان من إقليم ويلز، فقد افترضت أنه ضعيف الولاء للتاج البريطاني، ممثلا في الملكة إليزابيث ذات الأصول الجرمانية، فسألته: لماذا تعيش أسرتكم المالكة عالة على دافع الضرائب، بينما هي لا تحل ولا تربط؟
كان رد صاحبنا أن الملكية في بريطانيا مؤسسة، وأنهم يحترمون المؤسسية، وأن الملكة رمز بريطاني عابر للقارات
كان رد صاحبنا أن الملكية في
بريطانيا مؤسسة، وأنهم يحترمون المؤسسية، وأن الملكة رمز بريطاني عابر للقارات، بدليل أن نيوزيلندا وأستراليا وكندا تدين لها بالولاء. وفي ما يتعلق بأمر عيش أفراد الأسرة الحاكمة في بريطانيا كـ"طفيليين" مدللين على حساب الخزانة العامة، قال مستشار السفارة إن دخل بريطانيا السنوي من السياح الأمريكان فقط، الذين يأتون لزيارة قصر بكنحهام وقلعة وِنْزَر (وليس وندسور كما يتم رسم ونطق الكلمة في كثير وسائل الإعلام العربية)، يفوق ما تتقاضاه تلك الأسرة من المال العام.
وكنت في بريطانيا خلال الأيام التي سبقت الإعداد
لزواج الأمير هاري نجل ولي العهد البريطاني تشارلس، من الأمريكية نصف السوداء ميغان ماركل، وشهدت بالعين المجردة عشرات الآلاف من السياح يطوفون حول منطقة القصور الملكية، التي كان مقررا أن تجري فيها مراسيم "زفة العرسان"، وهم يتدافعون وكأنما السيدة العذراء ستطل عليهم من نافذة ما.
كنت أعمل في جريدة يومية خليجية، عندما تزوج تشارلس بديانا سبنسر، والدة هاري، وتمارضت لأسبوع كامل كي أتفادى كتابة سطر واحد عن مراسيم ذلك الزواج، بعد أن انتبهت إلى أن جميع الصحف العربية كانت تجاري رصيفاتها البريطانية، بالانشغال بتوافه الاستعدادات لذلك الزواج.
حرصت على متابعة معظم فعاليات زواج الأمير هاري بميغان ماركل، لأسباب؛ من بينها أن هاري خرج على تقاليد العائلة المالكة البريطانية، التي تقضي بأن يتزوج أفرادها من عائلات أرستقراطية
وبعد هدوء "دوشة" تلك الزيجة خرجت بنظرية الدياناكتيك، فجوهر الماركسية هو الديالكتيك أي المادية الجدلية، (الجدل الذي يوصل إلى النظريات والقواعد التي تحكم الناس وتسير حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية)، فصار الدياناكتيك هو المعيار لتحديد جمال المرأة وأناقتها وكياستها.
ومع هذا، فقد حرصت على متابعة معظم فعاليات
زواج الأمير هاري بميغان ماركل، لأسباب؛ من بينها أن هاري خرج على تقاليد العائلة المالكة البريطانية، التي تقضي بأن يتزوج أفرادها من عائلات أرستقراطية تقليدية "نبيلة". وصحيح أن وليام، الشقيق الأكبر، لهاري تزوج من كيت ميدلتون التي لا تنحدر من تلك الفئة من العائلات، ولكنها "بيضاء، بينما ميغان "حاجة تانية خالص".
أم ميغان أمريكية ذات أصول إفريقية (تحضرني هنا أرجوزة لشاعر المهجر الكبير إيليا أبو ماضي على لسان أمريكي أسود: وفتاتي في تلك الدارِ/ سوداء الطلعة كالقارِ/ سيجيء ويأخذها جاري/ يا ويحي من هذا العار/ أفلا يكفي أني عبد؟).
وميغان نصف السوداء مطلقة، وتكبر هاري بأربع سنوات، وناشطة في العمل العام، في مجالات تعارض بالطول والعرض الكثير من سياسات الحكومات الغربية. وفي الثقافة العربية فإن المرأة المطلقة كائن ينبغي تجنبه، أما الأرملة فنحس وشؤم.
كانت الكلمة كما هو معتاد لكبير أساقفة كانتربري، ولكن ميغان رتبت لكلمة من ممثل الكنيسة الأسقفية الأمريكية مايكل بروس كاري
خلال
مراسيم الزواج، كانت الكلمة كما هو معتاد لكبير أساقفة كانتربري، ولكن ميغان رتبت لكلمة من ممثل الكنيسة الأسقفية الأمريكية مايكل بروس كاري، وهو أسود "مصفى" وليس مثلها أسود نُص كُم، فكان أن ارتجل خطبة عن قوة الحب، وعن معاناة السود في الولايات المتحدة، واستشهد بأقوال لرائد حركة الحقوق المدنية للسود الأمريكان، مارتن لوثر كنغ.
كان كاري يتكلم ويبتسم ويضحك ويستخدم لغة الجسد، مما جعل فك أكثر من بريطاني وبريطانية من الذين شهدوا مراسيم الزواج يسقط من فرط الدهشة، وربما الاستنكار؛ لأنهم اعتبروا أنه خرج من مقتضيات الوقار.
ولأول مرة في تاريخ كانتربري كان هناك كورال يتألف بالكامل من الأمريكان السود، أدوا أنشودتهم وهم يتمايلون ويتراقصون، والبريطانيون في ذهول.
وبالتأكيد، فإن العريس هاري كان مشاركا في الترتيبات لحضور سود أمريكان، من بينهم لاعبة التنس سيرينا وليامز لمراسيم الزفاف، بل وشهد الحفلَ عدد كبير من "العوام"، ولهذا قلت في عنوان مقالي إنه كان زواجا جمهوريا إلى جانب كونه ملكيا. وبالقطع، فإن هاري كان يدرك أن ذلك سيجعل الأسلاف أحياء وأمواتا يتميزون غيظا.
وكان لافتا للانتباه أن هاري ألبس عروسه ميغان نفس الدبلة التي لبستها أمه ديانا عندما تزوجت بأبيه تشارلس، وأن كاميلا باركر التي خطفت تشارلس من ديانا كانت شاهدة على كل ذلك.
تفاديا لدعوة ترامب لحضور مراسيم الزواج، فقد اتفق هاري وميغان على استبعاد جميع السياسيين، بمن فيهم رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، من شهود المراسيم
في حفل لاحق اقتصر على عدد محدود من المدعوين، ألقى تشارلس كلمة مؤثرة سالت لها الدموع عن طفولة هاري، وعن فرحه بأن "العيال كبرت"، وكادت أن تسيل مني دمعة رثاء في حق تشارلس، الذي ظل يحمل لقب ولي العهد طوال ستين سنة، وأمه اليوم في الثانية والتسعين، ولكن، ولأنها تفتقر إلى جينات توريث العهود العربية، فليس من الوارد أن تتنازل لتشارلس عن العرش، إلا بعد زيارة من عزرائيل.
زواج هاري بميغان ماركل، حدث مهم جدا في عصر تنامت فيه النزعات النازية في أوروبا، والنعرات العنصرية في الولايات المتحدة (ممثلة في انتخاب دونالد أبو جهل ترامب رئيسا للبلاد)، وتفاديا لدعوة ترامب لحضور مراسيم الزواج، فقد اتفق هاري وميغان على استبعاد جميع السياسيين، بمن فيهم رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، من شهود المراسيم.