جاءني صديقي الشاب نوري في زيارة، الساعة الواحدة فجراً. وهي زيارة غير مباغتة، فرمضان يحول الليل إلى نهار، والظلام إلى أنوار. كان يرتدي جلابية مغربية، تتدلى منها قلنسوة رأس، مزينة ومزركشة حول العنق، تشبه تحلية المصاحف بالزهور، فعانقني عناق المشتاق، الذي قضى دهراً من الفراق، في بلاد الواق واق. أظهرتُ له عجبي من الزيارة المتأخرة، وهذه ليست من آداب حسن الاستقبال، فقال: شكوت ربي ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس، فذكرني بعمرو خالد الذي دعا بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف، من أجل فراخ الوطنية، ونال عليها 12 ألف دولارا، فقلت لعل نوري اتقى منه وأورع.
وقبل أن يذكر ظلامته، وهوانه على الناس، أبديت له إعجابي بجلابيته المغربية، فقال: إنه سيوصي لي بواحدة، وأخبرني قائلاً:
أنا أقيم منذ فترة قصيرة في حي مغربي، جلّ سكانه مغاربة وأتراك، وهم من الرعيل المهاجر بعد الحرب العالمية إلى ألمانيا، وأنا عائد الآن من صلاة التراويح، وأريد منك أن تفسر لي لغزاً صعب التفسير.
قلت وأنا أريد أن أساله عن هذه التقوى المفاجئة، فلم يكن يصلي في تركيا إلا صلاة نقرة الغراب، والصلوات الخمس يجمعها في صلاة واحدة عند عودته من العمل: تفضل يا سبعي المصفّد بالسلاسل؟
قال: المسجد في الحي يفيض بالمصلين، فلا موطئ لقدم، وصلاة التراويح تبدأ بعد صلاة العشاء، أي في الحادية عشرة تقريباً، وتستمر حتى منتصف الليل، المسجد صغير، ويغلق نوافذه وأبوابه، كتماً لصوت التلاوة، وحرصاً على راحة أهل الحي، وجلّهم مغاربة، لكن ما يزال فيهم ألمان، وأظنهم سيهربون من الحي قريباً، أو قد يغلقون المسجد، فصوت المكبر عال، مع أن المسجد محكم الإغلاق، سميك الزجاج. وقد يتحول إلى فرن من أنفاس المصلين المتزاحمين، الذين أكلوا الأطايب الغنية بالسعرات الحرارية، والمشكلة هي أن الإمام يتضرع يومياً بعد كل ركعتين للمصلين، ويتوسل إليهم، رعاية أطفالهم الذين يحضرونهم معهم من اللهو في أثناء الصلاة. ويرجوهم بعد انتهاء الصلاة أن يخرجوا صامتين خاشعين، لا مبدلين ولا مغيرين، ولا فاتنين ولا مفتونين، وألاّ يقفوا أمام باب المسجد منتظرين متجمعين، حرصاً على راحة أهل الحي. وأن يتجنبوا ركن السيارات أمام المسجد والشوارع المحيطة به. والألمان قوم ينامون باكراً، لكن المصلين يا خال يكررون كل اليوم الخطأ نفسه، الأطفال ما إن يروا المصلين خاشعين، لا مغيرين ولا مبدلين، ولا فاتنين ولا مفتونين، حتى يصيرون مثل العجول التي أفلتت، ويبدؤون الطراد بين صفوف المصلين، وهذه المشكلة أصغر من المشكلة الثانية، وهي وقوف الكبار بعد انتهاء الصلاة أمام الباب منتظرين، عند الخروج لا مبدلين ولا مغيرين، الابن ينتظر أمه، والأم تنتظر أبناءها العائدين من صلاة طويلة، والأب ينتظر أسرته النازحة في الخشوع، والصديق ينتظر صديقه، ثم يبدأ العج والثج؛ بهدير السيارات، وزئير الدراجات النارية، كأنها الليلة الكبيرة يا خال، كأنه مولد سيدي الفرحان.
انتهى من عرض المشكلة، فسألني: قل يا خال، يدي في زنارك، ما هي مشكلة المسلمين، ولم لا يرعوون؟
فسكتُّ أبحث عن إجابة، فهو يسأل سؤال شكيب أرسلان عن نهضة المسلمين، الذي كتبت فيه آلاف الصفحات، فقلت: ألم تسعَ إدارة المسجد في إيجاد دواء لهذه القضية؟
قال: نعم، بدأوا يصلون صلاة الخوف، فقد انتدبوا بعض المتطوعين، فلبسوا قمصاناً فوسفورية كقمصان عمال الطرقات، وباتوا يقفون على باب المسجد، حتى يحذروا الناس من الوقوف، وينبهوهم إلى المغادرة الفورية صامتين خاشعين لا مبدلين ولا مغيرين. والإمام يحض المصلين على إخراس هواتفهم، لكنها تظل مزغردة، ولا تكف عن نقيق إشعارات الواتساب والفيسبوك.
أريد تفسيراً لهذ الظاهرة القاهرة؟
تابع: الإمام شاب في الثلاثين، أمازيغي، ندي الصوت مؤدب، لم أرَ مثله أدباً وحلماً، وقد جاء متعاقدا من المغرب، واليوم خلع قلنسوته ورماها على الأرض غضباً من المصلين وأطفالهم، وهدّد بالاستقالة من منصب الإمامة والعودة إلى بلده.
قلت محتاراً: يا سبعي المشكلة عويصة، وهي تبدأ من الرأس، مشكلتنا في الرأس، الرأس فاسد، والمنفي مثل السجين، اذهب إلى حي العرب في برلين، سترى لافتات كتبها الألمان يرجونهم أن يفرزوا القمامة، ثم لا تنسَ أن رمضان مهرجان، والحياة تبدأ بعد الإفطار، هذا من جهة...
قال: الترك منظمون أكثر من العرب.
كان نوري يبحث عن تفسير غير هذا، قلت: ومن جهة أخرى، الأمراض الاجتماعية والدينية، أحضرها النازحون والمهاجرون معهم، معظم أئمة المساجد غير مؤهلين. يعني يستطيع أن يؤم الصلاة، أما إمامة المجتمع فصعبة. قلت : يحتاجون إلى " فرمتة".
قال معك حق: أمس دعا الإمام لأمير المؤمنين، ورؤساء العرب والمسلمين، الصالحين والطالحين، الكفار والمؤمنين، فقلت ليته دعا لميركل أيضاً.
ثم قال: احمد الله يا خال أن ديمقراطية الحكومات الغربية تضيق بالرموز الإسلامية، خوفاً أو غيرة أو حسداً، تصور لو كان الآذان مسموحاً، لهرب أهل الحي كلهم، قليل من المجتمعات الإسلامية تؤهل المؤذنين، مثل تركيا، وتجد كل من هبّ ودبّ يجرب حنجرته، ويريد كسب ثواب الآذان والاكتتاب على ناطحة سحاب في الجنة.
قال: سألتني صديقتي..
قاطعته: قبل أن تذكر لي حكاية صديقتك وسؤالها، قل لي كيف تجمع بين تقوى رمضان، والحرام يا سبعي، فأنت تعاشر صديقتك معاشرة الأزواج.
قال: أزعل منك خال، تزوجنا أنا وسابينا قبل رمضان، وهي الآن تصلي صلاة التهجد في قبو المسجد.
فتذكرت قصة مالك بن دينار، وكان دخل عليه لص، فما وجد ما يأخذ، فناداه مالك: لم تجد شيئاً من الدنيا، فترغب في شيء من الآخرة يا سبعي؟
قال اللص: نعم.
قَالَ: تَوَضَّأْ، وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ.
فَفَعَلَ، ثُمَّ جَلَسَ، وَخَرَجَ إِلَى المَسجد، فَسُئِلَ: مَنْ ذَا؟
قَالَ: جَاءَ لِيَسرِقَ، فَسَرَقْنَاهُ"
ثم قلت له: إن قصة مالك بن دينار صارت فلماً مثّله محمود عبد العزيز عنوانه "الحدق يفهم".
سألتُ: ماذا تطبخ للعروس على الإفطار؟
قال: الطعام كثير، جيراني المغاربة والترك يمدوننا بآنية الطعام فطوراً وسحوراً، مرّ أسبوع، ولم يوقد في بيتي نار.
قلت: ما شاء الله، أزهد من إبراهيم بن أدهم.
قال: سألتني سابينا، مرّة، لمّ يمشي الأزواج الترك والعرب، سابقين زوجاتهم بثلاث أمتار؟ تعرف خال أن الأزواج الألمان يمشون سوياً على صراط مستقيم، ومتشابكي الأيدي غالباً.
فاحترت خال، فذكرت لها جواباً لك، قرأته في أحد نصوصك، وقلت بلادنا كلها ألغام أرضية، والزوج يمشي أمام زوجته مضحياً بنفسه من أجل زوجته وقرّة عينه وأم أولاده؟
وقد أعجبها جوابي، وحَسُن إسلامها.
نهض فجأة، وقال: خال، بالأذن.. سأعود إلى البيت.
طلبت منه أن يمكث للسحور.
قال: ولو خال، أنا عريس، وأسوأ ما يكون العرس في رمضان، ولم أسمع بأحد عرّس في رمضان غيري، وقد تزوجنا عرفياً، يعني زواجي ليس فيه جنسية ألمانية حتى الآن، قصدنا إمام مسجد مغربي، وقرأ لنا الفاتحة مقابل خمسين يورو، وأنا ذاهب من أجل الزوم أوت والدبل كيك والفلاش باك. الأمير هاري ليس أحسن مني.
سألتُ: ما الزوم والفلاش باك يا سبعي؟
قال: الصيام لحس عقلك خال، "الزوم" يعني غُسل الجنابة، ولي كل يوم غُسلان، غسل للإفطار، وغسل للسحور.
ومن غير أن يشرح لي الفلاش باك ، والبانورما العليا ودعني قائلاً: تشاووووووووووو.