ليست هناك شعوب غبية وأخرى ذكية. الشعوب هي الشعوب في كل مكان، الفارق ربما يكون في درجة
الوعي أو الخبرة التاريخية التي مرت بها. فهناك شعب اكتوى بنار حاكم فكون مضادات للحكم الاستبدادي، وهناك شعب طال عليهم أمد الظلم فقست قلوبهم، لكن مسألة بقائه في المستنقع السياسي مسألة وقت. وليست هناك حصانة لهذا أو لذاك من المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل إن فكرة الإيمان بتفوق شعب معين على بقية الشعوب، أو أن هناك شعبا متخلفا بطبعه، هي أفكار عنصرية غير صحيحة؛ تدينها كافة قوانين حقوق الإنسان.
في عام 1970، كتب رئيس الوزراء الماليزي الحالي، مهاتير محمد، كتابا بعنوان "معضلة الملايو"، وذلك حينما كان سياسيا شابا. واتهم عرقية الملايو في بلاده بالكسل، داعيا إلى ثورة صناعية. كان الكتاب صادما في حينه وتم حظره، وبعدها بنحو عشر سنوات، كانت ماليزيا على موعد من وضع هذا الكتاب الممنوع موضع التطبيق، بعد أن وصل مؤلفه إلى منصب رئاسة الوزراء. وكلنا يعرف نهاية القصة وما أصبحت عليه ماليزيا.
ما الفرق بين الشعب الماليزي وأي شعب آخر، سواء أكان عربيا أم غير عربي؟ هي فقط درجة من الوعي، وهذا الوعي لا يفنى ولا يستحدث من عدم، ولكنه ينشأ عبر مبادرات فردية ونخبوية تستقبلها الشعوب بترحاب إذا أحسن الزارعون بذر الثمار وريها، كما حدث في التجربة الماليزية وغيرها من التجارب البشرية. وبالتالي، فإن نكبة أي شعب هي نكبة وفشل نخبته في الأساس، قبل أن تكون فشلا شعبيا.
وفي مقابل الوعي الشعبي هذا، الذي قد يحوِّل مصير دول ومجتمعات إلى الأفضل، هناك وعي أنظمة ينشأ بهدف الحفاظ على مكانها وسيطرتها، خاصة في الدول التي لا تحكمها مؤسسات مستقلة. هذه الأنظمة تطور مع الوقت طريقة ناجعة في التعامل مع الشعب بهدف التطويع وكبح جماح المعارضة بشكل رئيسي. وهذا يفسر سر استمرار كثير من الأنظمة الاستبدادية في العالم لفترة طويلة. وهناك أنظمة لها قدر من المرونة والذكاء في التعامل مع الشعوب، ما يضمن لها الاستمرار في الحكم والسيطرة من دون الاضطرار للقيام بعمليات قمعية وعنف واسعة.
في عالمنا العربي، لجأت الجمهوريات للصدام مع الشعوب الغاضبة في كل من سوريا واليمن وليبيا ومصر، أما الأنظمة الملكية العربية فكان لديها القدرة على امتصاص موجات الغضب الشعبي؛ لأسباب تحتاج لدراسة مستفيضة. لقد رأينا هذا في بداية الثورات العربية، ثم رأينا الأمر يتكرر في كل من المغرب والأردن خلال الأسابيع الماضية. درجة الوعي لدى الأنظمة هذه كفلت للأنظمة الجمهورية القديمة الاستمرار في السلطة بطريقة خشنة وعلى جثث شعوبها، وضمنت للأنظمة الملكية الاستمرار في مكانها بطريقة ناعمة، والمحصلة واحدة في النهاية، وهي البقاء في السلطة. وللمفارقة، فإن معظم الجمهوريات العربية كانت في الأساس ملكيات تم الانقلاب عليها في عمليات وصفت بأنها تحررية ثورية ترفع شعار الوعي.
بشكل عام، لا يمكن استنساخ تجربة رفع وعي شعب من الشعوب على تجربة أخرى في مكان وزمان مختلفين. فالأمر يتعلق بظروف سياسية ومؤثرات ثقافية واجتماعية، لكن القاسم المشترك الذي ينبثق منه نور الوعي هو الحرية. ومفهوم الحرية هنا يشمل بشكل رئيسي حرية الفكر وحرية الحركة. وهنا البوابة التي لا مفر من اجتيازها لتشكيل وعي جديد. ولهذا فإن مسار الحرية لا بد من أن يسير من أسفل لأعلى، وليس العكس. أي أن الإيمان بحرية الأفراد وإعادة الثقة في أنفسهم هي البداية التي ستقود غالبا إلى تغيير ظروف معيشتهم ومن ثم طريقة حكمهم، وعندها سينتصر وعي الشعب على وعي النظام. وهو طريق ذو اتجاهين، على خلاف ما هو شائع. فمسار الأحداث يغير من درجة الوعي، كما أن درجة الوعي تغير أيضا من مسار الأحداث. فلست هناك أفضلية لتغيير الأحداث على حساب تغيير الأفكار أو العكس.