جبران باسيل، وزير خارجية لبنان مهتمٌّ بأمرين: أن يعود النازحون السوريون إلى ديارهم، وأن يُسهم هو باعتباره -بالإضافة إلى مهامّه السياسية الجُلَّى- من كبار رجال الأعمال والمقاولين، في عمليات إعادة الإعمار في سوريا! إنه في الواقع مُحْسِنٌ ومتصدّق ويعرض خدماته من أجل إيواء النازحين العائدين الذين هدَّم النظام و«حزب الله» والميليشيات الإيرانية والمتأيرنة مساكنهم، إذ أين سيقيمون إذا أرغمهم باسيل على العودة دون تأمين المأوى؟ وما نفّره القانون رقم 10 الذي أصدره بشار الأسد، وهدفه الفعلي تخويف النازحين لكي لا يعودوا (!). بل أقبل على شرحه إيجابا بالتعاون مع وزير الخارجية السوري الخالد. لكنْ إذا لم ينفّره القانون الأسدي، أما نفّره إعلان الأُمم المتحدة أنّ العام 2018 كان أكثر الأعوام مأساوية في الأزمة السورية فيما خصَّ التهجير، فقد تهجّر خلال أشهره القليلة 920 ألف إنسان من أماكن سُكناهم باتجاهاتٍ متعددة.
والنظام الذي هجَّر هؤلاء بالأمس
يؤمن جبران باسيل أنه سيعيدهم اليوم بسبب العلاقة الخاصة بين باسيل والمعلّم واستطرادا
النظام السوري! وإذا لم تكن العلاقة الخاصة كافية، فلا شكّ أن المعلِّم ومعلِّمه
تأثرا جدا بعرض باسيل للمشاركة في إعادة الإعمار، فتحملا على مضض العبءَ ووجعَ
الرأس الناجم عن القبول بإعادة السنة إلى ديارهم في الغوطة والقلمون وحمص، بدلا من
إسكان الأفغان والباكستان والعراقيين من أنصار آل البيت! وكان نصر الله قد ذكر
لوفدٍ إيراني قبل شهرين أنه، وبسبب الاستضعاف القديم ذهب كثيرون من الشيعة باتجاه
المسيحية والتسنن، أفلا يمكن أن يكون وزير الخارجية الماجد من أصولٍ شيعية، لكنّ
والده أخفى عنه هذه الحقيقة، واكتشفها فيه السيد نصر الله فاحتضنه، دون الرئيس
نبيه بري الذي لا يطيقه!
لماذا
هذه السخرية السوداء كلّها؟ لأنه وبعد سنواتٍ سبعٍ عجاف بدأ العرب والدوليون
يفكرون بأنه إذا كان لا بدّ من استنقاذ الدول والمجتمعات، فلا بد من الاستثمار
بالمستقبل مستقبل السلم والأمن والعلاقة الحسنة بين الأنظمة والجمهور، والحكم
الرشيد.
وهذا هو الأمر الذي رأته المملكة والكويت والإمارات، حين تداعت
للاجتماع عند البيت الحرام، من أجل استنقاذ الأردن من الأزمة التي توشك أن تطبق
على عنقه. فالأردن رغم كل ما يقال عن السياسات الاقتصادية والضرائبية فيه، أدرك
مليكه خطورة الوضع وعزم على المعالجة، عندما قبل استقالة الحكومة، وكلّف رجلا جديا
ونزيها التفكير في الإجراءات المجدية، والتشاور مع سائر الفئات الاجتماعية
والسياسية من أجل ذلك.
الأردن الذي يعاني من ضائقة اقتصادية كبيرة، ما زعم أنّ سببها هو
اللاجئون السوريون، ولا هدَّد بطردهم، ولا نشر الشعارات العنصرية المخجلة في
وصفهم، ولا هدّد بطرد موظفي مفوضية اللاجئين، لأنهم لا يتبعون تعليمات جبران باسيل
الشديدة الهول! الجهات العربية والدولية ساعدت الأردن ولبنان، وساعدت لبنان أكثر
مما ساعدت الأردن وما تزال. وقد قال الأمريكيون والإيطاليون والفرنسيون والسعوديون
والكويتيون والإماراتيون... إلخ للبنانيين -وبينهم جبران باسيل- وفي عدة
مناسبات: ساعِدوا أنفسكم بالإصلاح وبالخروج من الفساد، وبالسياسات العقلانية في
الشؤون الخارجية والداخلية، لكي نستطيع مساعدتكم للمرة الخامسة أو السادسة خلال
العقود الثلاثة الأخيرة.
فماذا فعل السياسيون اللبنانيون في الانتخابات وبعدها، وكيف سينفذون
أفكار «سيدر» والتزاماته، لكي يستطيعوا الحصول على المساعدة في التنمية والتطوير
والخروج من حالة خمود النمو، وتفاقم الدَين العام؟! ما فعلوا شيئا بالطبع، بل
ساروا عكس ذلك في مسألة الضرائب، وسلسلة الرتب والرواتب، والمحاصصات في التعيينات
القضائية والإدارية والدبلوماسية. وقبل ذلك وبعده استمرار الفساد المفضوح في سائر
الوزارات وفي طليعتها الطاقة والاتصالات والمالية، بعد الأزمة الخانقة التي أحدثها
قانون الانتخابات الغريب والفريد. والآن وخلال تشكيل الحكومة العتيدة بطرائق غير
جدية ولا تبعث على الثقة، يفجّر رئيس الجمهورية وصهره ملفين لا تتحملهما البلاد في
الظروف العادية، فكيف بالظروف الاستثنائية: ملف التجنيس الذي يئنُّ منه المسيحيون
منذ الخمسينات من القرن الماضي.
فلكي يأمنوا بسبب أعدادهم المتضائلة، والهجرة الكثيفة في صفوفهم،
حُصرت صلاحية التجنيس برئيس الجمهورية المسيحي شخصيا. الآن وسط الضيق وكثافة
اللجوء إلى لبنان، يعمد رئيس الجمهورية إلى تجنيس مئاتٍ من «الغرباء» (التعبير
لباسيل ومسيحيين آخرين)، معظمهم من الفلسطينيين والسوريين، بحجة أنهم بثرائهم
سيخدمون الاقتصاد اللبناني. لكن ما رضي أحدٌ تقريبا عن هذا المرسوم، لأنّ بعض
هؤلاء ملاحَقون دوليا، والبعض الآخر معروف بأنه ذراعٌ للرئيس السوري بشار الأسد،
والبعض الثالث من الأصحاب والخلاّن وذوي السمعة التي لا يتحملها القبّان! ووسط
الصراخ الهائل من حول المرسوم، وآخره البطريرك الراعي؛ طلع على اللبنانيين والعالم
جبران باسيل بأنه ما عاد يتحمل تخاذُل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن حثّ
النازحين على العودة إلى ديارهم، ولذلك فقد أمر بإيقاف إعطاء موظفي المفوضية
إقامات على الأرض اللبنانية! من هو المسؤول عن السياسة الخارجية للبنان بحسب
الدستور؟ المسؤول الحكومة مجتمعة، والتي يتحدث باسمها رئيس الحكومة، وهي الآن
مستقيلة، والحريري مكلَّفٌ تشكيل حكومة جديدة. وقد خرج مستشار الحريري واعترض على
كلام باسيل، وكذلك وزير شؤون النازحين. لكن الإجراء أُبلغ للجهات المعنية.
إنّ
الخطر في مسألة علائق لبنان بالعرب أنّ الكراهية للعرب تحولت في السنوات الأخيرة
ليس إلى أيديولوجيا فقط؛ بل وإلى سياساتٍ أيضا! هي سياساتٌ عند المحور الإيراني،
وهي سياساتٌ أيضا عند أمثال جبران باسيل وزير الخارجية اللبناني، وصهر رئيس
الجمهورية، ورئيس حزبه! باسيل ليس فردا أهوج، بل هو ابن جيلٍ تربى على حسابات
طائفية، ولا تصلح لعيشٍ مشتركٍ، ولا لمراعاة للطائف والدستور.
لماذا
يكون على عرب الخليج، بل وسائر العرب، الوقوف مع لبنان في الصعوبات الجديدة التي
يُعاني منها، وهناك من هو مهتم بطرد العرب والعروبة من لبنان، بل وبقطع العلاقة مع
المجتمع الدولي. ولكي لا يبدو الأمر عبثيا أو طفوليا، فليس صحيحا أنّ هذا التوجه
المتنامي في لبنان هو انتهازي، بمعنى أنه يجنّس السوريين الأغنياء، ويطرد السوريين
الفقراء. لا بل هو اتجاه سياسي استراتيجي يقول بتحالف الأقليات ضد العرب وضد
السنة. فسوريو الأسد وإيران مرحَّبٌ بهم، والسوريون الآخرون حتى لو كان بينهم
أغنياء، ليسوا أهلا للترحيب!
يندفع
لبنان بسرعة نحو المحور الإيراني - السوري الذي يحاول محاصرته الأمريكيون والعرب
الخليجيون باعتباره يهدد أمنهم ودولهم ومجتمعاتهم. واندفاع تيار باسيل وتيار نصر
الله يستند إلى مصالح المحور وليس مصالح لبنان، وإلى أيديولوجيا وسياسات كراهية
للتبرير والمواجهة. فماذا يفعل الوطنيون اللبنانيون للخلاص من هذه التسوية
المذلّة، وهذا العهد المليء بالفظاعات؟ إلى الآن لا شيء. فيا للعرب!
الشرق الأوسط اللندنية