انتشرت تلك المقولة التي تتعلق بأن "الجيش.. عمود الخيمة" لتسجل واحدا من الشعارات غير المدروسة، والتي انطلت على الكثيرين في هذا الشأن. بل إن أستاذا أكاديميا هو الذي سعى إلى نشر هذا الوصف في كثير من كلماته وحواراته، واستدرج الجميع للترويج لذلك، وبدا الأمر هنا وكأن
المجلس العسكري يعد نفسه لدور يتحكم في مقاليد الأمور.
ورافق هذا الشعار شعار آخر بدا له يتحدث عن علاقة بين الجيش والشعب، مؤكدا "أن الشعب والجيش إيد واحدة".. بدا كل هذا مشفوعا حينما يقوم المجلس العسكري بإدارة الأمور، ثم يحدث أمرا خطيرا يصل إلى حد التجاوز والترويع والقتل من جانبه، وفي كل مرة كانت تنطلق تلك المقولة الشهيرة "أعلم أن رصيدنا عندكم لم ينفد".. نمّت تلك الشعارات الثلاث عن المعنى الذي يتعلق بتدخل الجيش في شأن السياسة والشأن المدني وقوته الباطشة.. حينما يسقط ضحايا فإن الرصيد لم ينفد. هكذا كانت المعادلة.. الجيش أمر لا يستغنى عنه، وأن المصالح واحدة ومتناسقة، وأن أي خطأ بالنسبة للجيش، حتى لو ارتكب عنفا أو قتلا، هو أمر متقبل! كل ذلك كان مشفوعا بأن
الثورة أحدثت سيولة في تكوينات ومؤسسات الدولة، وأن المؤسسة الواحدة المتماسكة هي الجيش ممثلا بالمجلس العسكري، وأن شعار أنا أو الفوضى لم يكن يقتصر على مبارك فحسب، ولا على خطابه المعلن، ولكن ذات الخطاب تكرر بلسان حال المجلس العسكري؛ يؤكد مرة أخرى "أنا أو الفوضى".
بين صناعة الثورة وصناعة الفوضى، برز دور المجلس العسكري ليدير الأمور (كما أسميتها مرارا وتكرارا بإدارة المرحلة الانتقالية بالكوارث)، وبدا الجناح المدني - كما أسلفنا الحديث - أضعف من أن يوازن حركة المجلس العسكري وسيطرته على مجريات تسيير الشأن السياسي والمدني، وجعل من حكومة عصام شرف، والذي اختير بعناية كبيرة من المجلس العسكري بحجة أن هذا هو مطلب الثوار، غطاء لتمرير ما يريد. فالمجلس العسكري حدد منذ البداية خطوطا حمراء لا يتعداها (شرف)، ومساحات محرمة عليه أن لا يتدخل فيها، ولا بأس بالقيام ببعض النشاطات التي يتمكن من خلالها المجلس العسكري أن يمتص حالة الزخم الثوري؛ الذي شكّل في حقيقة الأمر مليونيات متتابعة ومطالبات ثورية جامعة وأحداث كثيرة مفجعة. كلها أديرت وفق الإدارة بالكوارث، وفي إطار استغلال حالة الفرقة والتلويح بوقوع الفوضى. المجلس العسكري صوّر نفسه في النهاية أنه المنقذ المعصوم الذي وقف مع الشعب في الثورة، وأنه بذلك أسهم بسهم وافر بالثورة، وأكثر من ذلك (كما أراد أن يشيع) أنه "حمى الثورة".
فواقع الأمر أن المجلس العسكري وبشكل مبكر؛ كان يدبر كثيرا من مصالحه، ويغلف هذه المصالح بضرورة الحفاظ على عمود الخيمة...!! هذا التهديد بمصير غير مأمون من دولة لمجتمع صار صناعة لما أسمي "الطرف الثالث"، والذي كان في حقيقة أمره صناعة مخابراتية، سواء من المخابرات العامة أو من المخابرات الحربية، وبدا الطرف الأمني ممثلا في الشرطة منفذا أمينا لما تطلبه تلك الأطراف. وفي هذا المقام، فإن بعضها كان مدبرا وبعضها الآخر تٌرك عن عمد يتطور مثل حادثة استاد بورسعيد.. شكّل كل ذلك في حقيقة الأمر تصورا من الجيش بالتعامل مع الشعب بقسوة مريبة، وفي كل مرة يسندها هؤلاء بالتمرير والتبرير. تبدو إذن الخطة محكمة.. تعاظم دور العسكر، وتراجع دور الجناح المدني، وتشتت الثوار والحالة الثورية. في ظل هذا المناخ يتم تشكيل عالم الأحداث كما يريد المجلس العسكري؛ من توزيع أدوار يمكن ملاحظته من خلال قرائن كثيرة. ويبدو لنا أننا سنتوقف عند مشهدين لهما دلالة:
المشهد الأول يشير إلى الصناعة الانتخابية وتسيير المرحلة الانتقالية، إذ كانت النية قد عُقدت وفرضت من خلال زخم ثوري مكّن لحالة انتخابية واستفتائية تعبر عن إجرائها بشكل صادق ونزيه، إلا أن الأمر الذي لم يلحظه الجميع هو تلك الكيفية التي يقوم بها المجلس العسكري في صياغة العملية الانتقالية، لا لقانون الانتخاب فحسب. وفي ذلك الحضور الذي أشرت إليه في اجتماع عقد في نيسان/ أبريل ترأسه المشير طنطاوي ونائبه وبعض أعضاء المجلس العسكري، فإن دعوة هؤلاء الذين حضروا من قضاة ولواء داخلية يشرف على العملية الانتخابية، ورئيس المحكمة الدستورية آنذاك وواحد من أهم أعضائها، وعلماء السياسة.. كل هؤلاء حضروا ذلك الاجتماع بحسن نية واضح، الوحيد الذي يعرف ماذا يفعل ولماذا يفعل وكيف يفعل؛ هو المجلس العسكري.
وهنا من الأهمية أن ندرك ونؤكد أن المجلس العسكري، وبشكل مبكر، سيطر على مفاصل الأحداث والتشريعات التي تتعلق بمحركات الحياة السياسية، وعلى رأسها قانون الانتخابات.. إن هذا القانون قد صِيغ ومُرر ضمن هذا الشكل وبصياغة معيبة، وربما متعمدة، حتى يمكن الطعن في دستوريته؛ لحل مجلس الشعب بناء على ذلك. ورغم تحذير أحد الفقهاء القانونيين المتمكنين إلى هذه الصياغة المعيبة، إلا أن ذلك تم في تمثيلية مريبة: المشير نادى على رئيس المحكمة الدستورية مستفسرا منه.. "يمشي كده يا سعادة المستشار"؟ فيرد عليه: "يمشي يا سعادة المشير". ما بين المشير والمستشار تم طبخ القانون المعيب، وتم استغلاله لتعطيل الحياة البرلمانية، وبعمليات مريبة تحولت الثورة أو مطالبها التأسيسية إلى مسائل تتعلق بصناعة التأزيم.. هذا مشهد خطير.
المشهد الثاني اتسم بحالة عجيبة بتعامل نخب مع المجلس العسكري؛ تنافست في إرضائه وفي إطار ربما تناسى بعض الأهداف المتعلقة بالثورة، فمن افتعال يتعلق بين صراع بين شرعية الميدان وشرعية البرلمان؛ وقعت الواقعة لصناعة الفرقة بين من يجب أن يأتلفوا.. بدت الأحداث تنال من بعض شباب الثورة، وتكوينات هنا وهناك تبرر ذلك أو تمرره بالمقابل. سنرى قوى من التي أسمت نفسها بالقوى المدنية؛ تذهب للمجلس العسكري في السر والعلن لتؤكد له أنه لا بد من أن يرحل من سدة الحكم، وعليه أن لا يستعجل. وبدا ذلك التنافس الاستقطابي لا يستفيد منه إلا المجلس العسكري.. ظلت المحاولة على هذا النحو.. كثير ممن يسمى بالنخبة يتنافس بطلب ود العسكر، فضعفت كل الأطراف، وتعلق المجلس العسكري فصار حاكما بأمره، ويمارس كل ما من شأنه أن يمكن له من صياغة مستقبل يعوق كل مسيرة لأي حكم مدني قادم. فبدا العسكر يفرضون مزاجهم، وبدا الآخرون يسيرون في ركابه. لقد قفز الجميع على الحالة الثورية ومتطلباتها؛ في من ضرورة صياغة تلك الصفحة المهمة في إعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية صياغة سوية، بدلا من ذلك التعامل الذي أهدر أي تقوية للجانب المدني وتمكينه في الحياة السياسية.